يضرب مصطفى ورشيد موعدًا خاصًا، لا ليقصدا مقر الجمعية المحلية التي تقدم خدماتها للأشخاص المكفوفين، بل ليعيشا لحظات فريدة عنوانها الاكتشاف والسحر أمام شاشة كبرى ظنًا أنها مستحيلة على من فقد مثلهما نعمة الإبصار.
حدث ذلك في قصر المؤتمرات، مركز فعاليات مهرجان مراكش الدولي للفيلم الذي أقيم في الفترة من 29 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 7 ديسمبر/كانون الأول، حيث التفت الزوار من مغاربة وأجانب إلى مشهد مرور أفواج من شباب وشابات مكفوفين وضعاف بصر، نحو القاعة التي خصصها المنظمون لعرض الأفلام بتقنية الوصف السمعي لفائدة العشرات من هذه الفئة.
هنا يسجل المهرجان ريادته كأول محفل سينمائي أفريقي وعربي يستضيف المحرومين من نعمة البصر ليقاسمهم متعة السينما.
ينتهي العرض الأول، ابتسامات طفولية وتعليقات متبادلة حول تجربة أقرب إلى الحلم عاشوها في فضاء صالح الفن مع عمقه الإنساني والاجتماعي، وفتح أبواب الفن السابع، أو بعضها على الأقل، أمام هذه الشريحة التي فقدت ضوء الرؤية دون أن تفقد عمق الإحساس وحرارة الرصد والتفاعل مع سرد العالم.
يتجدد التقليد مع كل دورة ليصبح عنوانا مكرسا منذ تدشينه بدورة 2008، من خلال تجربة إعادة إنتاج فيلم مغربي كان حطم كل الأرقام على مستوى شباك التذاكر، ليتوسع نطاق التجربة وتتنوع اختياراتها دورة بعد أخرى.
إضاءة خيط الحكاية
وبفضل هذه المبادرة، أتيح لهذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة اكتشاف عوالم درامية مختلفة ضمت العديد من الروائع العالمية المتوجة بأرفع الجوائز لمخرجين رواد من قبيل مارتن سكورسيزي ومايكل هانيكي وبيل أوغست والراحلة أنييس فاردا وغيرهم.
تتضمن عملية الوصف السمعي تعليقًا صوتيًا يقدم شرحًا ذكيًا للمشاهد والفضاءات والحركات والوجوه التي يتضمنها الفيلم بصريا خارج نطاق الحوار، ويتدخل الصوت الواصف لتسليط الضوء عليها من أجل مساعدة الكفيف أو ضعيف البصر على التحكم في الحيز الأكبر من المسار السردي للفيلم ومحتواه الدرامي، دون المس بالشريط الصوتي الأصلي للفيلم وبنيته الفنية.
بعبارة أخرى، ما لا تراه عين الكفيف ينقل إلى سمعه حتى يظل ممسكًا بخيط الحكاية، باستخدام أجهزة بث واستقبال خاصة.
وعبر دورات المهرجان، حرص المنظمون على استقطاب أصوات إذاعية معروفة لها مكانة خاصة في ذاكرة الاستماع المغربية من أجل القيام بعملية الوصف السمعي وتأطير جلسات المشاهدة “الخاصة” لفائدة هذه الشريحة.
مولد فكرة “الوصف السمعي”
مهد هذه التقنية كان الولايات المتحدة بداية السبعينيات من القرن الماضي. ومن المصادفات أنها فكرة اقترحها أستاذ بجامعة سان فرانسيسكو على عميدها الذي لم يكن إلا أوغست كوبولا، شقيق المخرج العالمي فرانسيس فورد كوبولا.
تحمس العميد للمشروع وأنشأ برنامجًا أكاديميًا لتنزيله تقنيًا، ليشهد العام 1988 أول عرض بالوصف السمعي، وهو فيلم كوبولا “تاكر.. الرجل وأحلامه”.
“إنه متنفس لنا وتفعيل لحقنا في الثقافة والفن”، يقول مصطفى الذي يسجل أن مهرجان مراكش يتيح الموعد الوحيد من هذا القبيل في المغرب، ولو أن هذه الاستفادة تبقى موسمية.
يضيف الشاب الثلاثيني قائلًا “لدينا إحساسنا والوصف السمعي يساعدنا على سد الفراغات التي قد تجعل من الصعب إدراك محتوى الفيلم”.
ويأمل مصطفى بتعميم نطاق التجربة من خلال مواعيد ثابتة في مختلف أنحاء المملكة حتى يتاح لفئة عريضة من المكفوفين وضعاف البصر التمتع بإبداعات الفن السينمائي المحلي والعالمي.
خمسة أفلام متنوعة
خمسة أفلام روعي فيها قدر كبير من التنوع في الثيمات والجغرافيات إرضاء لاختلاف الأذواق. فيلم كوميدي مغربي، وأربعة أفلام أجنبية متعددة الآفاق: “النهر يجري من خلالها” لمخرجه روبرت ريدفورد (الولايات المتحدة)، النجم الأميركي الذي كرمه المهرجان، و”كي دورسيه” لمخرجه الفرنسي برتراند تافيرنيي، الذي احتفت به مراكش أيضًا. إضافة لفيلم “ليون” لغاريث ديفيس (بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة)، و”غراند سنترال” (فرنسي) لريبيكا زلوتوفسكي.
حكايات الإنسان في أوضاعه وتعاقبات فرحه ومأساته التي تتشابه عبر العالم، شدت إليها جمهورًا خاصًا يفك قيود الجسد ويرخي السمع لنبض الحياة على الشاشة، ويشحذ بواطنه للقبض على الدلالات والرسائل المبطنة في كل عمل فني.
وتندرج فقرة الوصف السمعي ضمن العمل الإنساني الاجتماعي الذي يرافق المهرجان منذ دوراته الأولى، فإلى جانب هذه الالتفاتة تجاه جمهور ذي احتياجات خاصة، يداوم المنظمون على تنظيم حملة طبية تشمل إجراء عمليات على العيون لفائدة المرضى من ضواحي مدينة مراكش، بحضور وفود من الفنانين المحليين والعرب والعالميين، من ضيوف التظاهرة.