يقظ تفشي جائحة كورونا ذكريات العالم حول الأوبئة القديمة، وعلى مرّ التاريخ البشري، ضربت الأوبئة الحضارات والمجتمعات القديمة منذ أول تفش معروف عام 430 قبل الميلاد خلال الحرب البيلوبونيسية (بين حلفاء أثينا وحلفاء إسبرطة).
ولزمن طويل قبل انتشار فيروس كورونا كان موضوع الوباء تقليدا أدبيا مبثوثا في التاريخ الأدبي القديم، وتناول عدد من الشعراء قصصا إنسانية تتراوح بين الألفة والفراق، ومشاعر من فقد حبيبه بالوباء، وكذلك المحاصرين في الحجر الصحي أو الخائفين من العدوى أو الفارين من الموت.
ومن أشهر القصائد التي كان الوباء موضوعها قصيدة “الكوليرا” للشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة، والتي اعتبرت بداية “الشعر الحر”، مما جعل شهرة هذه القصيدة تفوق قصيدة الشاعر المصري علي الجارم التي كتبها عندما ضربت الكوليرا مسقط رأسه “مدينة رشيد” بمصر عام 1895.
طاعون عصر الأمويين
في كتابه “الطاعون في العصر الأموي: صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية” استعرض المؤلف المصري أحمد العدوي آثار الطاعون على الدولة الأموية والحياة والمجتمعات في أقاليمها المختلفة، واعتبر أن عصر الدولة الأموية شهد حوالي عشرين طاعونا، بمعدل طاعون واحد لكل أربعة أعوام ونصف تقريبا.
واعتبر أن تراجع ثقل دمشق -التي كانت عاصمة للخلافة الأموية- يعود لتفشي الطاعون الذي حسم أيضا معارك كبيرة في العصر الأموي، بما فيها صراع مصعب بن الزبير مع عبد الملك بن مروان بالبصرة، وكذلك حسم سقوط الأمويين عندما استغل العباسيون الوقت المناسب لإعلان ثورتهم بين طاعونين كبيرين أصابا الشام والعراق في منتصف القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري).
ويقول العدوي للجزيرة نت إن المسيحيين والمسلمين نظروا للوباء بشكل مختلف، فقد نظر إليه المسيحيون كعقاب إلهي للبشر جراء الآثام والشرور التي ارتكبوها أو يرتكبونها، كما نلاحظ في العهد القديم الذي يتناول “انتقام الرب من البشر بتسليط الوباء عليهم لا سيما نبوءات إرميا وأشعيا”.
أما عند المسلمين فقد اختلف الطاعون تحديدا عن سائر الأوبئة لارتباطه بأحاديث تصفه بالرحمة وتعتبر الميت بالطاعون شهيدا، وللصابر فيه أجر المرابط في سبيل الله، ومن ثم اختلفوا في مسألة الدعاء برفعه من عدمه، ومع ذلك ذهب عدد من الفقهاء لاعتباره عقابا إلهيا على الانغماس في الملذات والمعاصي وترك العبادات وإهمال الفروض.
ويختم العدوي إفادته بالقول إنه إذا “دققنا في ما يتداوله الناس هذه الأيام على وسائل التواصل الاجتماعي لن نلحظ كبير تغير بين ذهنيات الناس اليوم وبين نظرائهم الذين عاشوا في القرون الوسطى”.
أدباء وأوبئة
وقبل تسعة قرون كتب الفقيه والأديب عمر المعرّي الكندي المعروف بابن الوردي قصيدته عن الطاعون التي اعتبرت من قصائد رثاء النفس؛ إذ توفي بسبب الطاعون بعد يومين من كتابتها، وفي تقريره الذي نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، قال الكاتب مصطفى أبو سنينة إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تزخر بتقليد قديم في كتابة الشعر عن المرض والوباء.
وأفاد الكاتب بأن الأعمال المتعلقة بالوباء في منطقة الشرق الأوسط ليست مجرد أدب خيالي؛ إذ تتجاوز الأعمال الفنية والانطباعية لتشمل أيضًا إرشادات النظافة وكتب السفر والأحاديث، وعلاوة على ذلك، قدمت أعمال كاتب القرن التاسع ابن أبي الدنيا مع الأعمال التي كتبها ابن حجر العسقلاني إرشادات حول كيفية مكافحة المرض، مثلما نلجأ في القرن الحادي والعشرين إلى منظمة الصحة العالمية وهيئات الإرشاد المختصة.
1947: الكوليرا في مصر
تصور قصيدة الكوليرا للشاعرة العراقية نازك الملائكة (1923-2007) ظلال الموت والحزن والمعاناة التي حطمت مصر خلال الأشهر الأخيرة من عام 1947، واعتبر الوباء هو الأكبر من نوعه في مصر خلال القرن العشرين، حيث أسفر عن وفاة أكثر من عشرة آلاف شخص.
وتستحضر الملائكة في قصيدتها صورا حية لعربات تحمل جثثا وللصمت الذي خيّم على الشوارع المصرية، كما تستخدم عبارات عامية للمرض، وتقول:
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبّنُهُ لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ يبكي من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ
وأورد الكاتب أن أصل العدوى لم يثبت أبدا، إلا أن العديد من المصريين يعتقدون أنه انتقل إليهم من قبل الجنود الإنجليز العائدين من الهند لمصر، التي كانت في ذلك الوقت مستعمرة بريطانية.
وقد أشاد النقاد بأسلوبها في ذلك الوقت باعتباره من أول أعمال الشعر الحر بدلا من القصيدة التقليدية، وفتحت القصيدة فصلا جديدا من الشعر العربي وألهمت موجة جديدة من الشعراء العرب لتجربة أشكال مختلفة من الشعر. وخلال التسعينيات، انتقلت الملائكة إلى القاهرة حيث أمضت سنواتها الأخيرة.
1784: الطاعون في شمال أفريقيا
أوضح الكاتب أن التصور الشعبي للأوبئة ركز على تفشي الأمراض مثل الموت الأسود في العصور الوسطى أو تفشي الإنفلونزا ما بين 1917-1920، التي أُطلق عليها اسم “الإنفلونزا الإسبانية”.
يروي كتاب “10 أعوام في بلاط طرابلس” لريتشارد تولي، القنصل البريطاني في طرابلس الغرب منذ عام 1784 قصة الطاعون الذي أصاب المدينة الساحلية في عام 1785.
كتب تولي كيف كان القش المحترق يستخدم لتطهير المنازل، إلى جانب ما يمكن أن نعترف به الآن على أنه تباعد اجتماعي. وكان الوضع أيضا قاسيا في تونس، حيث وصل الطاعون إلى مدينة صفاقس عام 1784، ومن المرجح أنه قتل نحو 15 ألف شخص، وحصل ذلك في مدينة ساحلية يبلغ عدد سكانها 30 ألفا، أي ضعف مدينة طرابلس.
وأضاف الكاتب أن صفاقس أُصيبت سابقا بالطاعون عام 1622 ومرة أخرى عام 1688، وبعد قرن قضى الوباء على العديد من نخبة الطبقة الحاكمة، بما في ذلك المسؤولين والسياسيين والشعراء، وبدأ الوباء عندما وصل تجار البحر بعد هروبهم من الطاعون في الإسكندرية، ورغم منعهم من دخول صفاقس لكن بعض البحارة تمكنوا من خرق هذا الحظر.
1349: الوباء في سوريا
وكتب ابن الوردي، الذي عاش في حلب ودمشق وبلاد الشام، واصفا “الموت الأسود” الذي اجتاح العالم خلال منتصف القرن الرابع عشر من آسيا إلى الشرق الأوسط ثم إلى أوروبا.
وأشار الكاتب إلى أن ابن الوردي كان في حلب عندما وصل الطاعون عام 1349 إلى هناك، وظل يفتك بالمدينة لمدة 15 عاما، مما أسفر عن موت حوالي ألف شخص كل يوم، ووصف حاله في أبيات كتبها قبل يومين من وفاته، قائلا:
ولستُ أخافُ طاعونا كغيري فما هوَ غيرُ إحدى الحسنيينِ
فإنْ متُّ استرحتُ من الأعادي وإنْ عشتُ اشتفتْ أذني وعيني
القرن العاشر الميلادي: حمى في مصر
وسمى شاعر العصر العباسي الشهير أبو الطيب المتنبي قصيدته عن الحمى عنوان “زائرة الليل” إذ تشتد الحمى في المساء، ووصف مقاومته للمرض وسعيه لتحقيق آماله، ولم تخل قصيدته من إشارة لكافور الإخشيدي حاكم مصر الذي تسبب في رحيله عنها.
وشبه المتنبي الحمى بالفتاة الخجولة التي يناجيها بشعره، وقال:
وزائِرَتي كأنَّ بِها حَياءً فَليسَ تَزورُ إلاّ في الظَلامِ
بَذلتُ لها المَطارِفَ والحشايا فعافَتها وباتَت في عِظامي
يَضيقُ الجلدُ عن نفسي وعنها فتوسِعُهُ بأنواعِ السقامِ
كأنَّ الصُبحَ يَطرُدُها فَتجري مَدامِعُها بأَربعة سِجامِ
أراقبُ وقتَها مِن غَيرِ شَوقٍ مُراقَبَةَ المَشوقِ المُستهامِ
ورغم قلة القصائد الشعرية والأعمال الأدبية التي تتناول الطاعون والوباء في عصر صدر الإسلام، فإن الأحاديث النبوية كانت حاضرة بقوة بين أبناء ذلك العصر.
وفي عام 639، انتشر الطاعون في بلاد الشام وأدى إلى مقتل العديد من الصحابة، ففي قرية “عمواس” الفلسطينية الواقعة بين مدينتي القدس والرملة توفي حوالي 25 ألف شخص في وباء عمواس، بمن فيهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وشُرَحبيل بن حسَنة وغيرهم، مما دفع علماء وأدباء مسلمين إلى الكتابة عن الطاعون وكيفية الوقاية منه.
ومن الأحاديث النبوية التي استشهد بها على نطاق واسع في كتب الأوبئة، قول النبي عليه الصلاة والسلام “إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه”، وفي حديث آخر رواه البخاري في عن عائشة رضي الله قالت سألتُ رسول الله ﷺ عن الطاعون فأخبرني أنه “عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد”.