جربنا جميعا في وقت من الأوقات أن نقوم قبيل أذان الفجر بشرب كمية كبيرة من المياه على مرة واحدة ونتسبب في كثرة شرب الماء في السحور على أمل أن يحتفظ بها جسمنا أطول فترة ممكنة خلال نهار اليوم التالي من الصيام؛ مما يجعلنا لا نشعر بالعطش.
لكن للأسف، إن هذه الحيلة البريئة التي كنا نمارسها في طفولتنا لم تكن تجدي نفعًا، وهذا له جانبان أحدهما جيد والآخر محزن بعض الشيء.
الجانب المحزن هو أننا لن نستطيع تخزين هذا الماء الذي تناولناه على مرة واحدة في أجسامنا خلال صيام اليوم التالي، أما الجانب السعيد فهو أن إفراز أجسامنا لهذا الماء الزائد يعني أن صحتنا جيدة وأعضاءنا تعمل بشكل صحيح بحمد الله وخاصة الكلى.
ماذا يحدث إذا عند كثرة شرب الماء في السحور ؟ وكيف تتعامل أجسامنا مع هذا الموقف؟ هل يمكن أن يسبب الإسراف في شرب المياه مشكلة صحية خطيرة؟ كيف إذا نتجنب العطش في صيام اليوم التالي؟
كيف يصيبنا الشعور بالعطش من الناحية الجسدية؟
هذا سؤال جيد لنبدأ به خاصة وأن هدفنا في الأساس هو تجنب الإحساس بالعطش خلال الصيام الذي يدفعنا إلى كثرة شرب الماء في السحور ، شعورنا بالعطش ينتج من خلال طريقين أساسيين:
الطريق البسيط: زيادة جفاف الفم
تمثل جفاف الفم المتزايد مع الصيام العلامة الأولى التي يستقبلها الجسم كدليل على فقدانه للسوائل وحاجته إلى الشرب وبالتالي يعطي إشارات عصبية للمخ تدل على الشعور بالعطش.
الطريق المركزي: تركيز مكونات الدم
مع فقدان السوائل الذي يحدث بشكل طبيعي على مدار الوقت سواء كان من خلال العرق عبر الجلد أو البول أو غيرهما، فإن ما يحدث هو أن نسبة المياه في تكوين الدم كسائل مختلط تنخفض، مما يؤدي إلى زيادة تركيز بعض المواد الأخرى المكونة للدم.
هذه الزيادة في تركيز مكونات الدم المترتبة على نقص المياه ترسل إشارات لنقاط متخصصة في مراقبة تركيز الدم في المخ، وهي التي بدورها ترسل إشارات إلى المخ بأن نسبة المياه منخفضة وعلى هذا الأساس يبدأ الجسم في العمل من طريقين:
إرسال إشارات للمراكز العصبية المتقدمة بالشعور بالعطش والرغبة في الشرب.
إرسال إشارات لجهاز تنظيم توازن السوائل والأملاح في الجسم الذي يدور حول الكلى بشكل أساسي.
ما يحدث هو أننا نقوم بعكس شعورنا بالعطش بالفعل، ولكن مع زيادة كمية المياه، فإن الأمر ينقلب للناحية العكسية.
الأمر ببساطة شبيه بالحيلة التي يحاول بعض الأطفال فعلها في زجاجات غسول الشعر التي أوشكت على الانتهاء عندما يحاولون ملأها بالماء، فهم في هذه الحالة يملئون حجم الزجاجة بالفعل، ولكن تركيز المادة الفعالة للشامبو يقل بشكل كبير ويصبح دون فائدة.
نفس الأمر يحدث مع أجسامنا عند شرب كمية كبيرة من المياه فجأة؛ حيث يدخل الماء إلى الدم ، الذي هو المادة الفعالة في أجسامنا في هذه الحالة، وبالتالي يبدأ محتوى المياه المرتفع في زيادة الحجم الظاهري للدم، ولكنه في نفس الوقت، يخفض من تركيز الأملاح والعناصر الأساسية من مكونات الدم.
وهنا تبدأ إشارات في بعض نقاط مراقبة تركيز الدم الطبيعي في المخ، بأن تركيز الدم قد انخفض بسبب دخول كمية كبيرة من المياه، ويجب أن تتحرك آليات دفاع الجسم لإعادة مكونات الدم إلى تركيزها الطبيعي.
كيف تتعامل أجسامنا مع العطش ؟
ووسائل الجسم لإعادة ضبط نسب السوائل، هي كالتالي:
ـ الهرمون المضاد لإدرار البول Anti-Diuretic Hormone.
ـ الكلى ووحداتها الوظيفية الصغرى المسماة بالنيفرونات Nephrones.
كيف يتفاعل الجسم مع السوائل؟
ـ الجسم يرغب في زيادة إدرار البول حتى يتخلص من الماء الزائد الذي دخل فورا.
ـ بناء على ذلك يرسل الجسم إشارات تقلل من إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول.
ـ بناء على انخفاض الهرمون، يقل عدد قنوات مرور المياه Aquaporines الموجودة في النيفرونات الكلوية التي يفترض بها العمل كقنوات يمر من خلالها الماء الذي تم ترشيحه خلال عملية تنقية الكلى للدم، التي يفترض أن يمر بها الماء عائدًا من النيفرونات الكلوية إلى الدورة الدموية ليبقى في الجسم.
ـ بناءً على انخفاض عدد قنوات مرور المياه التي تعمل على عدم فقد الماء في البول، يحدث زيادة في إخراج الماء من الدورة الدموية إلى البول خلال عملية الترشيح (الفلترة) الكلوية الطبيعية.
ـ وهكذا يقوم الجسم خلال وقت قصير بعد شرب المياه بالتخلص من الكميات الزائدة.
ـ من ثم تعود تركيزات مكونات الدم إلى نسبتها الطبيعية بما فيها نسبة المياه في الدم، ويعود الجسم للعمل بشكل طبيعي.
هكذا يتضح لنا سبب عدم نجاحنا في الاحتفاظ بالمياه التي نشربها دفعة واحدة في السحور، وسبب عدم نجاح هذه الخطة في مقاومة عطش الصيام، ورغم أن هذا يؤدي إلى شعورنا بالعطش في اليوم التالي، إلا أننا ينبغي أن نكون ممتنين بشدة لعمل هذه الوظيفية الفسيولوجية في الجسم بشكل طبيعي؛ حيث إن اختلالها أو فشلها لا قدر الله يؤدي إلى مشكلات صحية خطيرة.
كيف يحتفظ الجسم بالماء؟
الآلية الفعلية للحفاظ على توازن السوائل والأملاح في الجسم معقدة بشكل كبير؛ حيث تتضمن آليات أخرى للحفاظ على ضغط الدم وتنظيم حجم السوائل الإجمالي في الجسم.
تم الاقتصار هنا في الشرح على الجزء الخاص بإفراز المياه وإعادة امتصاصها من النيفرونات الكلوية وعلاقة ذلك بالهرمون المضاد لإدرار البول حرصًا على عدم توسيع مجال الشرح بطريقة قد تبدو معقدة.
من العناصر المهمة للغاية في الآلية الفعلية أيضًا هرمونات مثل الألدوستيرون والرينين والأنجيوتنسين.
كثرة شرب الماء في السحور
هناك العديد من المشكلات التي يمكن أن يسببها كثرة شرب الماء في السحور ، وترتبط هذه المشكلات بتناول كمية تزيد على 10 لتر من المياه في اليوم الواحد.
وهناك بعض حالات الوفيات المسجلة لمرضى مصابين بالقلب توفوا نتيجة تناولهم لكمية تتراوح بين 30 – 40 كوب من المياه على مدار يوم واحد.
وترجع الآثار السلبية الخطيرة لتناول كمية كبيرة من المياه إلى الانخفاض الشديد في تركيزات الأملاح المهمة في الجسم مثل الصوديوم والبوتاسيوم والتي تلعب دورًا أساسيًا في الحفاظ على الوظائف الأساسية للخلايا المختلفة في الجسم.
كيف إذًا نتجنب العطش في نهار رمضان ؟
هناك العديد من الخطوات على مدار اليوم التي يمكن أن تحمينا من الشعور بالعطش في اليوم التالي وتشمل:
ـ الحصول على كميات متوازنة من المياه على مدار فترة ما بعد الإفطار وحتى السحور.
ـ الاعتماد على مصادر مساعدة بجانب المياه كالعصائر الطبيعية الطازجة، حيث تعتبر مصدرًا متوازنًا للمياه المندمجة مع عناصر غذائية وأملاح معدنية تحافظ على توازن الأملاح والسوائل في الجسم بشكل إيجابي.
ـ الحرص على تناول الفواكه الغنية بالسوائل مثل البطيخ.
ـ الحرص على دمج الخضروات الغنية بالسوائل مثل الخس والخيار في التغذية اليومية خلال فترة ما بعد الإفطار.
ـ تجنب المشروبات عالية السكريات لكونها تسبب العطش.
ـ تجنب المشروبات المنبهة المحتوية على كافيين لكونها تسبب زيادة فقد السوائل وتسرع الشعور بالعطش.
ـ الحرص على عدم التعرض لضوء الشمس المباشر خاصة مع مجيء رمضان بالتزامن مع الصيف.
ـ اختيار المواعيد المناسبة لممارسة الرياضة قبل الإفطار حتى لا يؤدي فقد السوائل الزائد لمضاعفات سلبية.
وفي الختام..
ورغم كل شيء يبقى العطش يرغم صعوبته مع الحرارة المرتفعة من أجمل الأحاسيس الروحانية التي نختبر فيها لذة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وطاعته، واستشر أحد أطبائنا من هنا