يستقبل المجتمع التونسي هذه السنة -كما هي الحال في سائر البلاد الإسلامية- شهر رمضان بشكل استثنائي، منذ أن أطبق فيروس كورونا بفكّيه على العالم، وباتت التقاليد التي تصاحب هذا الشهر الكريم ترزح تحت وطأة إجراءات وقائية مشدّدة، طالت عادات وممارسات اجتماعية وعائلية وحتى غذائية.
وتعد “الملسوقة” وخبز “الطابونة” إضافة إلى “النواصر” و”شربة الشعير” والعديد من الأطعمة المعدّة يدويا من الموروثات الثقافية الغذائية للشعب التونسي، التي طالما تزاحم عليها المواطنون في رمضان، لكنها هذه السنة وعلى خلاف العادة باتت أسيرة رفوف المتاجر والفيروس.
تراجع الطلب على خبز الطابونة التونسي جراء انتشار كورونا
تخوفات مفهومة
أيقظ فيروس كورونا هواجس ترتبط بحفظ الصحّة لدى التونسيين، الذين ينبع تخوّفهم أساسا حاليا من استهلاك هذه المواد الغذائية تقليدية الصنع من طريقة إعدادها، التي ترتكز في أغلب الأحيان على العجن والخبز والتقطيع يدويا، ويتم إعدادها في مطابخ منزلية خاصّة.
ويقول السيد فتحي (تاجر مواد غذائية) إن الطلب على المواد الغذائية المعلبة تضاعف في الأيام الأخيرة التي سبقت رمضان، في حين لاحظ تراجع نسبة إقبال الزبائن على الأغذية التقليدية المصنّعة يدويا، رغم الإجراءات التي اتخذها في عرض المنتجات من لف ومنع للّمس والمعاينة.
منتجات غذائية تقليدية تونسية قل الطلب عليها
منتجات غذائية تقليدية تونسية قل الطلب عليها ويضيف أن الأمر لا يتعلّق فقط بالتخوف من انتقال العدوى عبر إعداد الأطعمة يدويا، بل يعود أيضا لمخلّفات الحجر الصحي الذي ألزم التونسيين البيوت، وأوقف أنشطتهم المهنية، مما دفعهم إلى اللجوء للأطعمة المعلّبة التي تتسم بأسعارها المنخفضة مقارنة بالمواد التقليدية.
وتنص إرشادات منظمة الصحة العالمية للبلدان والأفراد والتي نشرتها على الموقع الرسمي للمكتب الإقليمي لشرق المتوسط على “احتماليّة انتشار المرض بسبب مخالطة الحيوانات، أو ملامسة الأغذية الملوّثة، أو انتقاله من شخص لآخر”، من دون تحديد مفهوم واضح للأغذية الملوّثة.
جانب آخر من منتجات غذائية تونسية تقليدية الصنع
أرزاق على المحكّ
تعد الأنشطة الموسميّة في الصناعات الغذائية التقليدية المرتبطة بشهر رمضان باب رزق تنتظره ربّات البيوت غير المتمتعات بدخل مالي كاف، ويعتمدن في ذلك على مهاراتهن الخاصة في إعداد الأطعمة الرمضانية، ويقمن بتسويقها عن طريق عرضها لدى المتاجر والمحلات.
تقول سميرة (45 سنة) -وهي معينة منزلية أقعدها انتشار الفيروس عن العمل- إنها تمتهن منذ سنوات صناعة “الملسوقة” و”النواصر”، ولكنها فوجئت برفض بعض المتاجر اقتناء منتجاتها لركود الطلب عليها، مما دفعها إلى قبول عرضها لديهم والمحاسبة على الكميات التي تباع فقط.
سميرة: الركود سيضعنا حتما في ضائقة مالية لمواجهة نفقات شهر رمضان ومصاريف عيد الفطر
ركود هذا النشاط سيضعها حتما في ضائقة مالية لمواجهة نفقات شهر رمضان ومصاريف عيد الفطر، وتعتبر أن المستهلكين يبالغون في التخوّف من انتقال العدوى، بما أن كل الأطعمة ستخضع آليا للطهي مرة أخرى، الأمر الذي سيقضي على الفيروس إن وجد.
وتنعدم الإحصاءات المرتبطة بعدد النساء اللائي يمارسن هذه الأنشطة، التي تعرف ذروتها في شهر رمضان، ولكنها تتواصل بوتيرة أقل طوال السنة، لذلك تسعى وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن التونسية إلى استقطابهن عن طريق توفير خطوط تمويل لتمكينهن اقتصاديا.
منتجات غذائية تقليدية الصنع غابت عن موائد التونسيين خوفا من كورونا
حلول بديلة
تختلف الحلول البديلة التي ترافق العادات الغذائية التونسية في شهر رمضان من منطقة إلى أخرى حسب نسب التمدّن والتفرغ، إذ تلجأ ربات البيوت في المدن والمناطق الحضرية إلى الاستغناء نسبيا عن بعض الأطعمة المعدّة تقليديا وتعويضها بالمنتجات الصناعية المعلّبة، رغم الإجماع على اختلاف النكهة والمذاق.
تقول لطيفة (40 سنة) -موظّفة- إن مخاوفها من اقتناء المعجّنات والأطعمة المعدّة تقليديا تزداد يوميا مع تفشي وباء كورونا، لذلك لا تستبعد الاستغناء عنها هذه السنة استثنائيا، وتعويضها على مضض بالصناعية منها، مضيفة أنها ربما ستعتمد على الوصفات التي تتيحها بعض المواقع كلما تسنّت لها الفرصة.
وتعد المناطق الريفية التونسية المكان الأنسب للمصالحة مع الجذور والتقاليد الغذائية، إذ تعمد ربات البيوت إلى توفير مستلزمات شهر رمضان عن طريق إعدادها مسبقا بأنفسهن، رغم النقص الحاصل في بعض المواد الأساسية الذي رافق انتشار وباء كورونا في تونس.
وترى حميدة (55 سنة) أنها دأبت منذ سنوات على إعداد المستلزمات الغذائية المعدّة للاستهلاك خلال شهر رمضان نظرا لتفرغها الكامل، ولتوفر غرفة مخصصة للمؤونة في منزلها، لذلك تقول -مبتسمة- إن مائدتها لن تعرف أي نقص كما جرت العادات والتقاليد منذ عقود.
لقد عايشت الموروثات الغذائية للتونسيين على امتداد التاريخ فترات شبيهة بالأزمة الحالية لفيروس كورونا، ولكنها بقيت حاضرة إلى يومنا هذا تتداولها الذاكرة الشعبية من جيل لآخر حتى وإن غابت عن البطون أحيانا.