استطاع العديد من المسلمين الأفارقة الاحتفاظ بجذورهم الدينية، وكانوا على قدر جيد من التعليم ويعرفون اللغة العربية والقرآن، بحسب الباحثة في الشتات الأفريقي سيلفيان ضيوف التي أثارت جدلا بكتابها “عباد الله” الصادر عن جامعة نيويورك عام 1998.
وفي كتابها، ألقت المؤلفة الضوء على الإرث الإسلامي في ثقافة الأميركتين، مشيرة إلى أن المسلمين ابتكروا طرقا للتعبير عن ثقافتهم، رغم الضغوط التي مورست عليهم للتخلي عنها، وظلوا يرددون مزيجا من التمتمات والابتهالات وأغاني الحقول، التي تطورت عبر عقود طويلة من الزمن حتى أسفرت عما يعرف اليوم باسم “موسيقى البلوز” التي أصبحت أحد معالم الثقافة الأميركية.
وفي العام 2017، أفرجت مكتبة الكونغرس عن مخطوطة نادرة يربو عمرها على قرنين، كتبها بخط يده وبلغة عربية واضحة، أميركي من أصول أفريقية يدعى عمر بن سعيد، استفتحها بآية قرآنية وأخذ يبث فيها أحزانه ويحكي مأساة اختطافه من وطنه واستعباده بعد أن كان ثريا متعلما عزيزا في وطنه.
وتشير روايات تاريخية إلى اعتناق عمر بن سعيد المسيحية تحت ضغوط، غير أن الباحثين المعاصرين أشاروا إلى أنه ظل مسلما، إذ وجدت له ابتهالات ومدائح نبوية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى مدح أوصاف المسيح نبيا دون تأليهه، حيث ظلت الابتهالات وسيلته للتعبير عن معتقده وجذوره.
الجذور المغاربية
يتحدث الباحث الموسيقي النمساوي غيرهارد كوبيك في كتابه “أفريقيا والبلوز” الذي صدر عام 1999 عن التجويدات المتموجة المتشابهة في موسيقى البلوز والأذان، مرجعا ذلك إلى “احتكاك المستعبدين القادمين من غرب أفريقيا بالتراث الغنائي الإسلامي في المغرب العربي شمال أفريقيا، وآلة العود العربية المنشأ التي طورت منها آلات وترية عدة كالغيتار والكمان وآلة البانجو التي اشتهر الأفارقة الأميركان بالعزف عليها”.
ويخلص كوبيك إلى القول بأن “البلوز مكون عربي إسلامي بشكل كامل”، ويشاركه هذا الرأي العديد من الباحثين منهم جون ستورم روبرتس في كتابه “الموسيقى السوداء في عالمين” الصادر عام 1998.
كما يجزم الباحث صامويل شارترز بأن “الموسيقى الأفرو أميركية تعود جذورها إلى منطقة ما بين نهر السنغال وجنوب غينيا، وهي منطقة خضعت لتأثيرات مغاربية، حيث كانت مدن القيروان وتلمسان وفاس منطلقا لانتشار الحضارة العربية الإسلامية في أفريقيا”.
هذا الأمر يؤكده العازف البرازيلي والباحث في موسيقى البلوز أدريانو غرينبيرغ فيقول إن “البلوز من صلب موسيقى الشرق الأوسط، فقد تركت ثقافة شمال أفريقيا والتأثيرات الموسيقية الشرقية والصوفية هناك تأثيرا ملموسا للغاية في الشكل الإيقاعي لموسيقى البلوز، إلى جانب تأثيرها في موسيقى الباياون الشائعة في المناطق الشمالية من البرازيل أيضا، والذي يجعلها تتشابه إلى حد بعيد مع موسيقى البلوز”.
تصفيق حاد
في دراسة نشرتها صحيفة “سان فرانسيسكو كرونيكال” الأميركية عن الجذور العربية والإسلامية لموسيقى البلوز، أشارت المؤلفة سيلفيان ضيوف إلى أن المسلمين كانوا يشكلون حوالي 30% من الأفارقة الذين جُلبوا قسرا إلى الأميركتين منذ 400 عام.
وتضيف أن موسيقى البلوز وطريقة أغانيها تشبه “الأذان” إلى حد كبير، من حيث الدعوة إلى الصلاة، والتحدث عن إله مجيد، وارتجاف الكلمات، وتموج الطبقات الصوتية، والتنقل بين المقامات الموسيقية، والتجويدات الأنفية التي تتحكم في الأداء الصوتي.
وفاجأت سيلفيان طلابها في جامعة هارفارد لأول مرة، بعرض تسجيل صوتي للأذان الإسلامي بلحنه الأفريقي، وأعقبته بتسجيل لأغنية البلوز الشهيرة “نداء السد الصارخ” (Levee Camp Holler) التي تعد من أقدم وأشهر أغنيات البلوز التي ظهرت لأول مرة في دلتا المسيسيبي منذ أكثر من 100 عام، كنمط للغناء المنفرد الشجي النغم البطيء الإيقاع، الذي تتخلله فواصل من التنهيدات أو الأنين، ويعتمد على الزخارف الصوتية وتطويل حروف الكلمات بما يشبه حركة المد في الأذان.
وكانت سيلفيان بذلك تؤكد للطلاب الصلة الواضحة بين الأغنية التي تطلب كلماتها العون من الله في مواجهة ظروف الحياة القاسية، وبين الأذان الذي يدعو المسلمين إلى الصلاة، لتضج القاعة بالتصفيق.
من البلوز إلى الجاز
وفقا لما ذكره الباحث بجامعة كولومبيا الدكتور هشام عايدي في كتابه (Rebel Music) الحائز على جائزة الكتاب الأميركي لعام 2015، فقد امتد تأثير البلوز إلى موسيقى الجاز التي تعد من أشهر أشكال الموسيقى الأميركية التي يتضح بجلاء تأثر مجموعة من نجومها بإيقاع التواشيح الدينية.
ويأتي عازف الساكسفون وأحد أبرز وأهم موسيقيي الجاز جون كولترين في مقدمة هؤلاء، حيث يعد ألبومه الموسيقي الخالد “الحب الأسمى” الذي أطلقه عام 1964، من أعلام موسيقى الجاز وحقق أعلى المبيعات وقتها.
ويؤكد الملحن يوسف لطيف أن كولترين الذي ردد في الأشعار المصاحبة لمقطوعته جملة “All Praise Belongs to God” أكثر من مرة، إنما كان يقصد بها “الحمد لله رب العالمين” من سورة الفاتحة التي طالما سمع زوجته تتلوها في صلواتها.
كما أن الدلالات اللغوية للمقطوعة ككل تشبه تلك الدلالات الخاصة بسورة الفاتحة، إضافة إلى أن الطريقة التي تبدأ بها الفرقة الموسيقية في الغناء تشبه إلى حد كبير الطريقة التي ينشدها المنشدون الصوفيون في حلقات الذكر الصوفي التي تنتهي بتكرار قول “الله حي.. الله حي”.
وقد اعتنق العديد من فناني الجاز الإسلام، وتأثرت أعمالهم بالألحان والروحانيات الإسلامية إلى حد كبير، وفقا لما ذكره عازف الجاز الأميركي الشهير ديزي غيليسبي في كتابه “أكون أو لا أكون”.