يدرك الجميع أنه “من رحم الظلام يولد النور” لكن هذا الأمر لا ينطبق على الحالة النفسية لجميع الأشخاص.
فبعد المعاناة من مرض ما أو انفصال مؤلم عن شريك/شريكة الحياة، قد ينهار الشخص رغم أنه تمكن من تخطي تلك المحنة الصعبة، كما تقول الكاتبة سارة تريان، في تقرير نشرته صحيفة لوفيغارو الفرنسية.
بعد محنة صعبة، نصبح أكثر هشاشة وعرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية
مراحل آلية الإجهاد
وفقًا لستيفاني برتلون، العالمة النفسية في ليون والمؤسسة المشاركة في مركز علاج الإجهاد والقلق، يمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال المراحل الرئيسية الثلاث لآلية الإجهاد وهي:
1- التنبيه
2- المقاومة
3- الإرهاق
أثناء المحنة يتم تجاهل مشاكل عديدة تظهر مجددا بمجرد تجاوز المحنة
وتوضح برتلون أن “الإجهاد رد فعل يصدره الجسم الذي يتكيف تمامًا مع التهديدات أو المواقف الحقيقية التي يفسرها على هذا النحو. نجد أولا مرحلة التنبيه التي ستضع الشخص في حالة تأهب، حيث يسمح الجهاز العصبي الودي للجسم كله بتعبئة الطاقة للتعامل مع هذا الوضع الجديد عن طريق إفراز الأدرينالين”.
وتضيف الأخصائية النفسية أنه “بعد مرحلة التحضير، ندخل مرحلة الاستهلاك. وخلال مرحلة المقاومة هذه، نبني استجابة فسيولوجية دائمة ويتم إنتاج الكورتيزول بكميات كبيرة، ويستنفد احتياطي السكر والدهون. عند المقاومة، نتجنب الشعور بالعبء الذي يثقل كاهلنا، لكن يتطلب ذلك الكثير من الطاقة”.
وتابعت “في حال استمر الوضع لفترة طويلة ولم نتمكن من إيجاد حل، ندخل مرحلة الإرهاق. ولا يمكننا التأكد مما إذا كانت نهاية المحنة هي التي أدت لحالة الانهيار النفسي أو لأننا لم نعد بحاجة للمقاومة”.
حضور أقل للمحيطين بك
بعد محنة صعبة، نصبح أكثر هشاشة وعرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية. ويوضح غيوم دي لا شابيل الطبيب النفسي في مستشفى إينيسيا في ليون “عندما نفرز الكثير من الأدرينالين والكورتيزول للتعامل مع المحنة التي نمر بها، تنفذ كل احتياطاتنا”.
ويزيد لا شابيل “عند هذا المستوى، تظهر أعراض الاكتئاب حيث نصبح غير قادرين على إدارة المواقف الصعبة أو حتى العودة لممارسة السلوكيات المجزية أو الأنشطة التي تعد مصدرا للاستمتاع بالنسبة لنا”.
ويفترض الطبيب النفسي أنه أثناء هذه المحنة، يتجاهل الأفراد مشاكل عديدة، والتي تظهر مجددا بمجرد تجاوز هذه المحنة. ويعتبر أنه “عندما نخوض هذه التجربة أو نعيش في نزاع معها، نركز على مشكلة معينة”.
في الواقع، ما يفضل الدماغ فعله بل ويجيده هو مهمة التجزئة وتجنب تضارب الأفكار. ولكن حين تعود جميع هذه المتاعب الصغيرة التي تم إهمالها للظهور، تكون قد تطورت كثيرا. وبالتالي تستنزف طاقتنا ويكون التعامل معها أصعب، بحسب الطبيب لا شابيل.
وهنا ينبغي عدم التغاضي عن الدور اللاإرادي للمحيطين بنا. ويشير لا شابيل إلى أنه “قد يكون المقربون منا أقل حضورا عندما تبدو الأمور كما لو أنها تسير على ما يرام”.
من ناحية أخرى، لا يمتلك الشخص المنهك في بعض الأحيان القدرة على جمع أحبائه من حوله أو يشعر بالذنب لمواصلة القيام بذلك.
لا يمتلك الشخص المنهك في بعض الأحيان القدرة على جمع أحبائه من حوله
تجديد الطاقة بدلا من استهلاكها
أخيرًا، يتدخل عامل إدراكي في هذه المسألة: عندما نفقد يقظتنا وتستنفد طاقتنا، فإننا ندفع أنفسنا إلى الانهيار. وتصف العالمة النفسية برتلون رد الفعل الفسيولوجي هذا بأنه ضروري ومنقذ، إذ “يعمل نظام جسمنا بشكل محكم، لأنه من خلال الاسترخاء، يجبرنا على التوقف واستعادة قوتنا. ويعد هذا الأمر آلية حماية”.
وهذه المرحلة تؤدي غالبًا إلى مساءلة أنفسنا وإدخال تغييرات على حياتنا، فعلى سبيل المثال، من لم يغير وظيفته بعد المعاناة من احتراق نفسي مهني، أو يغير حياته بعد الإصابة بمرض لازمه طويلا، أو أعاد النظر في أولوياته من بعد فقدان عزيز عليه؟
وإذا كان هذا الانهيار ضروريًا في بعض الأحيان، فمن الممكن توقع حدوثه من خلال وعي الفرد بحالته وتنفيذ إستراتيجيات تسمح لنا بتلبية احتياجاتنا خلال مرحلة المقاومة، عبر تجديد الطاقة بدلاً من استهلاكها.
ولتوضيح ذلك، تشبّه العالمة النفسية ما نمر به أحيانا بأمر نعيشه في حياتنا اليومية فـ “في هاتفنا المحمول، يمكننا معرفة نسبة شحن البطارية. وعندما تبلغ هذه النسبة 5%، لن يكون بإمكاننا التمتع بمشاهدة مقاطع الفيديو عبر الإنترنت. وتتمثل المشكلة لدى البشر في أنه لا يمكن التعرف على هذه النسبة، ولكن هناك علامات تحذيرية مثل: النوم أو الشهية أو الحالة المزاجية تدل عليها. لذا عليك الحرص على قدراتك ومعرفة حدودك”.
وتختم برتلون بأن التربية النفسية وسيلة أساسية لمنع الصعوبات النفسية التي قد يعاني منها كل منا فـ “كلما زاد وعي الناس بما يحدث داخلهم، تمكنوا من التحكم فيه، مما يولد لديهم شعورا بالاطمئنان. وقد يكون من الصعب التعايش مع تجربة الانهيار، ولكن يجب استيعاب أن محاربتها ستكون لها عواقب سلبية أكثر من تقبل عيشها”.