لزمن طويل قبل انتشار فيروس كورونا كان موضوع الوباء تقليدا أدبيا مبثوثا في التاريخ الأدبي، وتناول عدد من الروائيين والشعراء قصصا إنسانية تتراوح بين الألفة والفراق، ومشاعر من فقد حبيبه بالوباء، وكذلك المحاصرين في الحجر الصحي أو الخائفين من العدوى أو الفارين من الموت.
متنوعة هي موضوعات الأدب، ولأنها كذلك لم تخل مما لا نحب، وكثيرا ما خرجت القصائد والقصص والروايات من رحم المعاناة الإنسانية، وأيقظ تفشي جائحة كورونا ذكريات العالم حول الأوبئة القديمة، وعلى مرّ التاريخ البشري، ضربت الأوبئة الحضارات والمجتمعات القديمة منذ أول تفش معروف عام 430 قبل الميلاد خلال الحرب البيلوبونيسية (بين حلفاء أثينا وحلفاء إسبرطة).
ومن أشهر القصائد التي كان الوباء موضوعها قصيدة “الكوليرا” للشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة، والتي اعتبرت بداية “الشعر الحر”، مما جعل شهرة هذه القصيدة تفوق قصيدة الشاعر المصري علي الجارم التي كتبها عندما ضربت الكوليرا مسقط رأسه “مدينة رشيد” بمصر عام 1895.
الشعر وقوافي التوعية
يذهب نقاد الأدب إلى أن الغرض الشعري من محددات طريقة الكتابة، فالشعر الذي يقصد به التوعية مثلا لا بد له من الوضوح والمباشرة. وقد كتبت في أغلب الأقطار العربية قصائد للتوعية والنصح، وكانت في غالبها باللغة المحكية، وقد تجيء فصيحة مثل قصيدة الشاعر التونسي عبد العزيز الهمامي:
فَلْتدخلْ بيتَكَ لَوْ تسْمحْ
العالَم مَوْبُوءٌ
وهَـوَاءُ الشّارِعِ يَـجْـرَحْ
المَنْزِلُ وَرْدتـك الأُولَى
وَمَكَانُـكَ فِي الغُرْفَةِ أَوْضَحْ
ولا يرى منصور في “الشعر والعقل” التفاضل بنوع الطريقة، ولو أردنا قياس جودة الشعر أو قيمته، فلا يصح أن نتخذ من المباشرة أو غير المباشرة مقياسا فاصلا بين الجودة والرداءة، لكنه يعوّل على الشاعرية فقط.
إغلاق دور العبادة وعدم القدرة على إجابة النداء المنبعث من المساجد، شكَّل حالة غريبة وجديدة على المسلمين أسالت دموع الكثيرين وأبكتهم. وكان المشهد الأصعب خلو صحن الكعبة من طائف أو مصل. لكن الشعراء يرون الأمور بقلوبهم.
مما جَعَل الشاعر العراقي عمر عناز يرى غير ما يرى الناس، فيقول:
خلا من زائريهِ البيتُ، قالوا
فقلتُ: أراهُ مُزدَحِمَ الفِناءِ
فسيحا، غادَرَتهُ الناسُ كيما
تَطوفُ به ملائكةُ السّماءِ
توقف الكثيرون عند هذه الجائحة معولين عليها في رد الإنسان إلى إنسانيته بعد أن أخذته الحياة الحديثة في لهاث وحركة تخلو من المشاعر، وهذا مما عالجه الشاعر السوداني بحر الدين عبد الله في قصيدة له يقول في مطلعها:
هذا الإنسان الآليُّ
سيقتل حُلْمَ الفيروساتِ
ويهزمُ بالحُبِّ
سُلالاتِ الكوفيدْ
ويكمل بحر الدين قصيدته قائلًا:
هذا الإنسان
الآليُّ
سيكفر بالكمامات
ويُؤمنُ
بالنغمِ النورانيِّ
وأمصال التوحيدْ
هذا
الإنسان الآليُّ
سيشربُ من كفِّ الله
وحُبِّ اللهِ
نشيدا نورانيّاً
بعد نشيدْ
كتاب “الطاعون القادم”
نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقابلة مع الصحفية الأميركية لوري غاريت التي تنبأت بوباء كورونا قبل ما يزيد على عقدين من الزمن وتوقعت خلالها أن يطول أمد الجائحة، وأن تتسبب تداعياتها الاقتصادية في غضب جماعي واضطرابات سياسية.
غاريت -التي يلقبها الأميركيون بـ”كاساندرا” التي تقول الميثولوجيا الأغريقية إنها منحت القدرة على التنبؤ بأحداث المستقبل وحكم عليها بعدم تصديق الناس لنبوءاتها- حذرت في كتابها “الطاعون القادم” الصادر عام 1994 من وباء مثل الوباء الحالي سيجتاح العالم، وما فتئت تكرر تحذيراتها بشأنه في محاضراتها وكتاباتها خلال السنوات الماضية.
ورجحت غاريت في المقابلة التي أجراها معها الصحفي فرانك بروني وركزت على تنبؤاتها بشأن الأحداث المقبلة، ألا يكون العقار الجديد “رمديسيفير” ناجعا في علاج المصابين بفيروس كورونا، مشيرة إلى أن أقوى الادعاءات بشأن فعاليته حتى الآن هي أنه يقلص مدة تعافي المصابين بالوباء.
وقد باتت الحاجة ماسة إلى علاج أو لقاح ضد الفيروس، لكن غاريت لا ترى أن ذلك اللقاح سيكون متاحا خلال العام المقبل، كما ترى أن أمد أزمة تفشي وباء كورونا سيكون طويلا.
وقالت غاريت “لقد أخبرت الجميع أن أفق رؤيتي للحدث هو حوالي 36 شهرا، وهذا هو أفضل الاحتمالات، أنا متأكدة تماما من أن ذلك (تفشي الفيروس) سيكون في موجات، ولن يكون هناك تسونامي يجتاح أميركا ثم يتراجع في الوقت نفسه”.
رواية من جنوب أفريقيا
الكاتبة والصحفية الجنوب أفريقية لورين بيوكيس (1976) أصدرت مؤخراً روايتها “بعد الأرض” التي تجري في زمن الجائحة.
في الرواية الخيالية وخلال 350 صفحة تقريبا، قتل فيروس شديد العدوى حوالي ٤ مليارات رجل، وأصبح المجتمع الإنساني في حالة سيئة مع عدم وجود علاج في الأفق، وفقدت النساء فرص الإنجاب ولم يبق سوى عدد محدود من الذكور الناجين أثبتوا أن لديهم مناعة صحية أو جينا مقاوما للمرض، فأصبحوا سلعا لأجندات مختلفة في عالم يغلب عليه النساء.
“بعد الأرض” تدور في عالم ما بعد الجائحة وتنتمي لأدب “المدينة الفاسدة والواقع المرير”
في مزيج من التشويق النفسي والإثارة والخيال العلمي، يتابع قارئ الرواية نجاة مايلز البالغ 12 عاما مع أمه، وتسعى السلطات لحجزه في الحجر الصحي للأبد في حين يسعى المتاجرون بالبشر وطائفة من الراهبات للحصول عليه. وفي مطاردة يائسة عبر أميركا التي تغيرت جذريا، ستقوم الأم بكل ما يلزم لتأمين ابنها والنجاة به إلى أرض الوطن (جنوب أفريقيا).
وتستكشف الروائية فكرة أن عالم النساء لن يكون بالضرورة مكانا ألطف وأجمل وأكثر أمنا وإنما هو “عالم من الناس، فيه القدرة البشرية الكامنة للخير والشر، لأن المرأة قادرة على أن تكون متعطشة للسلطة، وعنيفة، ومهتمة بذاتها، وبإساءة معاملة، وشريرة مثل الرجل خاصة عندما نعيش في نفس المجتمع، ولكن ربما بطرق مختلفة”.
وبالمثل، فإن الرجال قادرون على أن يكونوا متعاطفين، ومانحين للرعاية والصداقة، تضيف الروائية الجنوب أفريقية في حوارها المنشور بمنصة كونفيرزيشن (The conversation).
وكما هو الحال مع الروايات الخيالية الجيدة، تهتم بيوكيس بإعادة تشكيل المجتمع الذي يحدث في أعقاب الوباء المتخيل، بما في ذلك الأشكال الجديدة للتنظيم الاجتماعي، والتفاعل الإنساني، وبالطبع الانحراف والمشكلات الناجمة عن كل ذلك.
وتقول الكاتبة على لسان إحدى شخصيات الرواية “لا يمكنك أن تتخيل كم يمكن للعالم أن يتغير في ٦ أشهر.. لا يمكنك ذلك”.
وتتيح الرواية رؤية أميركا من خلال عدسات جنوب أفريقية، وتتعرض للاختلافات بين المدن في القارتين، ولم تخل لغة الرواية من لهجة جنوب أفريقية واضحة.
ورغم أنها خيالية بالكامل فإنها اشتملت على عديد المشاهد التي تبدو مستوحاة من الواقع مثل نقص المطهرات وغسل اليدين بشكل صارم والقلق من عدم العثور على علاج أبدا، ونظريات المؤامرة، وانهيار الأسواق المالية، وتكدس المستشفيات، وغيرها من المشاهد التي تكاد تكون عناوين صحف اليوم.