عقد العرب منذ القدم صداقة وثيقة مع الخيول التي تجاوزت دورها الوظيفي لتكون بمثابة صديق للعربي يحاوره ويصاحبه ويرتحل ويقاتل على ظهره، لكن الرسومات القديمة المبثوثة في شتى أنحاء العالم تؤكد أن الخيول احتلت مكانة مهمة في ثقافات العديد من شعوب العالم أيضا.
في هذا التقرير الذي نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية، سلّط الكاتب يونس بوسنّة الضوء على ظاهرة غامضة وغريبة شهدتها فرنسا خلال الأسابيع الأخيرة، حيث عُثر على العديد من الخيول المشوّهة والمقتولة. وقد حاور الكاتب عددا من الباحثين والخبراء الذين تحدّثوا عن الرمزية التي مثّلها هذا الحيوان في الثقافات الإنسانية عبر التاريخ.
خيول مشوّهة ومقتولة
يؤكد الكاتب أن ظاهرة الخيول المشوّهة والنافقة في فرنسا خلال الفترة الأخيرة ما زال يكتنفها الكثير من الغموض، في ظل حالة من الغضب الشعبي والأسئلة الملحة عن الأسباب والدوافع.
ويقول الكاتب إنه من غير المعروف ما إذا كانت الظاهرة تتعلق باعتداءات بشرية مرتبطة بطقوس قديمة، أو أنها حوادث طبيعية.
وفي تعليقه على الظاهرة، يقول مدير سلسلة كتب “فنون الفروسية” جان لويس غورو، الذي ألّف حوالي 30 كتابا عن الخيول، إنه “لا توجد ممارسة قديمة من هذا القبيل تتطابق مع ما نشهده الآن، هذه ليست سوى أعمال قاسية لا مبرر لها”.
من جانبه، عبّر عالم الأنثروبولوجيا جان بيير ديغار، المتخصص في العلاقات بين الإنسان والحيوان، عن صدمته قائلا “نحن لا نفهم جيدا معنى هذه الأعمال البربرية، لكنها مرتبطة ببعض الطقوس، وهو ما يعطيها بعدا مرعبا”.
ويقول غورو، المدير الفخري للبحوث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، إن هذه الاعتداءات مزعجة للغاية في حق حيوان أثار إعجاب الإنسان وفتنه منذ القدم، وكدليل على هذا الشغف، فإن الحصان مثّل أحد العناصر الرئيسية في فن الكهوف، ويعود تاريخ أقدم الرسوم التي ظهر فيها الحصان إلى حوالي 34 ألف عام، في كهف شوفيه جنوب فرنسا.
ويعتبر ديغار أن المدهش في تلك الرسوم التي تعود إلى العصر الحجري القديم هو “أن الحصان يظهر فيها وهو يركض. هذه الرسومات تشير في المقام الأول إلى قوة هذا الحيوان وسرعته”.
يذكر الكاتب أن الآثار الأولى لاستئناس الخيول وُجدت في آسيا الوسطى، وتحديدا في منطقة تمتد من البحر الأسود إلى كزاخستان الحالية، وتعود إلى حوالي 3500 عام قبل الميلاد.
يقول ديغارد “تم استئناس الحصان دون أن تكون هناك فكرة واضحة عن الفائدة من ذلك”، حيث لم تبدأ رياضة الفروسية حتى الألفية الأولى قبل الميلاد في آسيا.
وفي الغرب، ارتبط الحصان أساسا بالغزو والحروب، وهو ما تُظهره الرسوم التي تصوّر محاربي الوندال والهون على ظهور الخيل أثناء حملاتهم البربرية المروّعة.
رموز متضادة
من منظور ديني، يقول الكاتب إن الحصان يلعب دورا مزدوجا بين الحياة والموت. ففي ثقافات آسيا الوسطى، وخاصة العقيدة الشامانية، يلعب الحصان دور مرشد الأرواح، أي قائد الأرواح في الآخرة.
ونجد هذا المعنى أيضا في الأساطير الإسكندنافية، حيث يفوض الإله أودين “الفالكيري” العذارى بحمل أبطال المعارك المقتولين على الخيول إلى العالم الآخر.
أما في الميثولوجيا اليونانية، فإن الملك يوروسثيوس يأمر هيراكليس بأن يروض خيول ديوميدس الأربعة النادرة.
كما يجمع الحصان، حسب الكاتب، بين الصفات الذكورية والأنثوية في الآن ذاته. فكثيرا ما يرمز الحصان للقدرة الجنسية العالية، ومن هنا يأتي مصطلح “فحل” ضمن المعجم الجنسي الذكوري، كما يرتبط هذا الحيوان بصفات الأنوثة من خلال شعره، وقوامه الرشيق، والعلاقة الحميمية بينه وبين الفارس.
لكن عالمة الأعراق والباحثة في متحف التاريخ الطبيعي في باريس، برناديت ليزي، ترى أن هذه النظرة إلى الحصان كرمز للذكورة أو الأنوثة بدأت تتلاشى، وتحل مكانها مقاربة جديدة ترى هذا الحيوان رمزا لـ”علاقة أخلاقية جديدة مع الحياة ومع الطبيعة”.
وتؤكد ليزي أن الحصان مثّل منذ فترة طويلة وإلى زمن غير بعيد رمزا للنفوذ والمكانة الاجتماعية المرموقة، وهو ما كان يظهر بوضوح في فرنسا خلال القرن الـ١٩، وتدل على ذلك لوحة جاك لوي دافيد الشهيرة التي تُظهر نابليون وهو يعبر جبال الألب على متن حصان.
ناقل روحي
ويضيف الكاتب أن الحصان موجود أيضا في الديانة المسيحية، إذ يتنقل العديد من القديسين على الخيول، مثل القديس هوبرت والقديس يوستاس والقديس مارتن والقديس جرجس.
ويلعب الحصان دورا رئيسيا في رؤيا يوحنا، عبر الفرسان الأربعة المرسلين من السماء، كما أن عودة المسيح إلى الأرض حسب العقيدة المسيحية ستكون على حصان أبيض. وفي الإسلام أيضا، يحتل الحصان مكانة هامة حسب الكاتب، إذ ركبه النبي محمد صلى الله عليه وسلّم.
وبالنسبة للأستاذ المحاضر في جامعة السوربون الجديدة، كارلوس بيريرا، فإن هذا الحضور الطاغي للحصان كوسيلة نقل ذات بعد ديني لا يمكن أن يكون مصادفة. ويرى الباحث المتخصص في الحضارة البرتغالية وفنون الفروسية، أن الحصان هو الحيوان الأهم بين جميع الحيوانات على المستوى الروحي.
ويضيف بيريرا أن الحصان “صورة للجسد وأهوائه التي يجب ترويضها من أجل الوصول إلى الإله”، وهو ما تعكسه فكرة الحصان الأبيض في نهاية العالم، والتجربة الصوفية التي “تنشد أعلى درجات الكمال عبر ركوب الخيل”.