منذ القديم والإنسان يميل بفطرته إلى القصة المحكية، فقد بدأ الإنسان الأول برسمها على جدران الكهوف، ولما امتلك اللغة دوّنها في المخطوطات والكتب، ثم نقلها عبر المسرحيات والدمى، ومنذ وقت ليس ببعيد كان “الحكواتي” في مجتمعنا العربي يجلس في قهوة السوق ويلمّ حوله الجمع ليحكي لهم قصصا عن شخصيات تاريخية، كعنترة وابن بطوطة وغيرهما.
خلال العقود الأخيرة، أحدثت اختراعات أجهزة الإسقاط الضوئي والتلفاز وأشرطة الفيديو ثورة كبيرة في مجال نقل القصة ونشر الثقافة والمعرفة، خاصة أنها جمعت بين الصوت والصورة. وبعد التطور التكنولوجي الهائل في مجال ترجمة الخطاب السمعي البصري ولا سيما بعد ظهور الأقراص المدمجة والقارئ الصوتي، لم يعد دور الترجمة السينمائية يقتصر على إيصال المحتوى الفني فقط، بل أمست وسيلة نقل إعلانية تحمل على متنها رسائل تجارية وسياسية وثقافية.
تكمن خطورة الترجمة السينمائية في كونها محركا مهما للرأي العام، وأداة فعالة في توجيه فكره، فهي سلاح ذو حدين، فمرة تكون أداة لنشر الانفتاح الثقافي والفني، وأخرى تكون وسيلة لقمع الشعوب وإشعال الحروب.
وبحث بسيط كفيل بإيجاد عشرات الأفلام المسيّسة التي تنقل أيديولوجيات الحكومات وسياساتها، وأخرى تشجع على العنف والعنصرية وأفعال أخرى غير أخلاقية. وفي المقابل نحظى بأعمال ساهمت بشكل فعلي في نقل الثقافات والانفتاح على الآخر والقيام بحملات مناصرة عالمية لقضايا شغلت الرأي العام واكتسبت دعمه.
أهم أسس الترجمة السينمائية
تعتمد الترجمة على عدة أسس وقواعد تحقق النقل الأمثل للنصوص على تعدد أنواعها الأدبية والاجتماعية والسياسية وغيرها، خاصة فيما يتعلق بالترجمة السينمائية، فعلى المترجم أن يكون على دراية كاملة بموضوع النص، وعليه نقل المعنى لا النقل الحرفي.
ولا يكفي الناقل السينمائي أن يكون ملما بمهارات اللغة والتواصل، بل عليه أيضا أن يخلق جسرا يستطيع من خلاله إيصال المحتوى المطلوب بأسلوب سهل وواضح، يجمع بين صحة القواعد والأسلوب الصادق القريب من النص الأجنبي، بحيث يضمن نقل مشاعر لغة المصدر وانفعالاته إلى المشاهد.
كل هذا يتطلب حسا أدبيا وفنيا يصل به إلى تقمص الشخصيات ونقل انفعالاتها بطريقة تجعل المشاهد -دون انتباه- يدمج بين الترجمة المقروءة والحركة المسموعة.
يبدأ المترجم اكتساب خبرته الأولية عبر ترجمته لأفلام غير معروفة، ومن ثم الانتقال إلى الأكثر شهرة، معتمدا في عمله على متابعته الدائمة لآخر أخبار السينما ومواعيد إطلاق الأفلام، ويجب أن يكون رسولا يستطيع صياغة رسالته دون استفزاز لثقافة المشاهد.
فنرى بعض الأفلام -في ترجمتها إلى العربية- تمتنع عن ذكر عبارات لها علاقة بالألوهية أو بالألفاظ الإباحية، كما أنه يمكن للمترجم أن يشترك مع مترجمين آخرين في نفس العمل الفني، خاصة إذا كان يعمل مع شركة خاصة بالترجمة، بينما تقدم مواقع أخرى ترجمات جيدة من قبل عدد كبير من المترجمين المتطوعين الذين ينهالون على ترجمة الأفلام ورفعها، ليتم اعتمادها مع حقوق ملكيتها بعد تقييمها من قبل لجان مختصة في تلك المواقع.
الترجمة في العالم العربي
أما في العالم العربي، فحتى النصف الأول من القرن الماضي كانت ترجمة الأفلام ركيكة ومختصرة تظهر على شاشة جانبية صغيرة ضعيفة الإضاءة، ويتولى موظف السينما تحريك الشريط يدويا على حسب تسلسل المشاهد، مما كان يجعل من الصعب على المشاهد الذي لا يفهم لغة الفيلم أن ينظر إلى الفيلم مباشرة دون النظر إلى الترجمة.
في بداية عمله، اعتمد عبيد على آلات ديناميكية لكتابة الترجمة بطريقة كيميائية، وبدأ تصدير آلاته إلى خارج مصر بسعر وصل إلى ألف جنيه إسترليني حينها.
ويعد فيلم “روميو و جولييت” أول فيلم قام عبيد بترجمته بعد توقف مشروعه خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ثم قامت معامله في القاهرة بترجمة كثير من أفلام هوليود إلى العربية، بداية من فيلم “لص بغداد” (The Thief of Baghdad) و”الطيب والشرس والقبيح” (The good, The bad and The ugly)، لتصبح معامل أنيس عبيد الأشهر والأوسع انتشارا في مصر والعالم العربي في مجال ترجمة الأفلام، خاصة بعدما قرر التلفزيون العربي عام 1960 ترجمة الأفلام الأجنبية إلى العربية، والتي بقيت مستخدمة إلى فترة قريبة.
وفي عام 2012، وبعد مرور نحو ربع قرن على وفاته، قام وزير الثقافة المصري في ذلك الوقت محمد صابر عرب، بتكريم أبرز المترجمين المصريين، وكان أنيس عبيد على رأسهم.
لكن، وعلى الرغم من المجهود الكبير الذي بذله عبيد على مر عقود، لا تزال حركة الترجمة إلى العربية ومنها ضعيفة مقارنة بلغات أخرى.