هل يستلهم الأدباء والكتاب عناوين أعمالهم من بين ثنايا السطور والنصوص التي ينجزونها؟ أم ليس ضروريا أن تأتي حرفيا من داخل النص الإبداعي؟ وهل يبدؤون بالعنوان أم يختمون به؟ وهل يقبل الأديب والكاتب أن يضع الناشر عنوانا لكتابه؟
وبما أن العنوان هو عتبة النص فهل يمكن أن يوجد نص بلا عتبة، وكتاب بلا عنوان؟ أم أن ذلك متعذر؟
وأمام عناوين لكتب ونصوص منجزة لآخرين، هل حدث أن تمنى أديب ما لو أن هذا العنوان أو ذاك من إبداعه؟ ثم ما العناوين الأولى التي أثارت دهشة الكتاب العرب ولامست وترا في أرواحهم؟ وما الفرق بين عنونة الشعر (كمثال) وعنونة أصناف أدبية وكتابية أخرى كالرواية والسيرة والقصة واليوميات والنقد والبحث والترجمة والفنون والعلوم، إلخ..؟
وهل فكرة التناص في العنونة مقبولة أم أن العنوان إذا وُضع يصير ملكية فكرية لكاتبه؟
الشاعر العماني المقيم في السويد زاهر الغافري الذي أثرى المكتبة العربية بأكثر من 12 مجموعة شعرية، وترجمت بعض أعماله إلى الإسبانية والإنجليزية والألمانية والسويدية والفارسية والهندية والصينية.. فإلى تجربته مباشرة.
أغلفة النهار والليل
إذا اعتبرنا أن العناوين هي أغلفة النهار والليل فليس بالضرورة أن يكون العنوان الشعري من بين ثنايا النصوص، فأنا أكتب نصا ثم في النهاية أضع العنوان، وبالنسبة لكتبي الشعرية حاولت مبكرا أن أضع عناوين مستبعدا أي رائحة من الأيديولوجيا، مهما كانت هذه الأيديولوجيا.
ديوان “في كل أرض بئر تحلم بالحديقة” لزاهر الغافري يضم قصائد مختلفة بعضها قصير
“العابر بلا كلمة”
أكتب بحرية كاملة وبذاكرة بيضاء إن جاز التعبير، ففي مجموعتي الأولى كان العنوان “أظلاف بيضاء” حتى آخر أعمالي “العابر بلا كلمة”، وسأذكر أمثلة على بعض مجموعاتي فيما يتعلق بالعناوين، بعضها نعم مأخوذ من ثنايا سطر أو من مناخ النصوص كلها، مثل “الصمت يأتي للاعتراف”، “عزلة تفيض عن الليل”، “أزهار في بئر”، “المجموعات الخمس”، “حياة واحدة.. سلالم كثيرة”، “غيوم فوق جسر أبريل”، “في كل أرض بئر تحلم بالحديقة”، ثم إن العنوان رفيق للنصوص، هيئة من يدل على عصب ما تكتبه، لذلك أحيانا يجد الكاتب صعوبة في اختيار هذا أو ذاك من العناوين.
قلق الكاتب
يقول الصحفي الإيطالي إيتالو كالفينو إن الروائي الفرنسي مارسيل بروست كان يعي مجيء عصر التقنية المعاصرة عندما كتب “البحث عن الزمن الضائع”، فليس هذا العمل جزءا من لون الأزمنة، بل هو عصب في شكل العمل نفسه، وبالتالي ينبثق من منطقه الداخلي، من قلق الكاتب والرغبة القصوى في اختبار ما يمكن كتابته في نطاق الحياة الوجيزة التي تستهلكه.
جزء من الروح
بالطبع، لا أقبل أن يضع الناشر عنوانا لعمل من أعمالي إذا كنت ما زلت حيا، لأن العنوان عندما يضعه الشاعر بنفسه فإنه جزء من عصبه وروحه وأنفاسه.
والعنوان..
قد يكون مثل الماركة المسجلة، وهناك دراسات نقدية حديثة تذهب إلى اعتبار العنوان المدخل الأول للنصوص، لكن هناك شعراء لا يضعون العنوان في قصائدهم كما يفعل أحيانا الشاعر الفلسطيني زكريا محمد، القصيدة هي التي بعنوانها، نص شعري يبدأ بكلمة أو كلمتين أو جملة، فيصبح العنوان ملتصقا بالنص الشعري، وهذا الأمر يحتاج إلى الذكاء أيضا، أي أنه ليس أمرا اعتباطيا، نعم العنوان هو عتبة النص بالنسبة للقارئ، إنه إشارة للدخول إلى النصوص، وهو أمر يهتم به الناقد أيضا.
مدينة الشعر
هناك عناوين لكتب شعرية أحببتها، مثلا عنوان كتاب الشاعر الصديق وديع سعادة “ليس للمساء إخوة” أو عنوان كتاب الصديق الشاعر الراحل سركون بولص “الوصول إلى مدينة أين”، وكلاهما من المجاميع الأولى في تجربتهما الشعرية.
ومثل هذه العناوين تمتلك جمالية آسرة وتشد القارئ، وإذا كنت تبحث عن مدينة أين لا بد لك من الترحال والسفر الدائم والتأمل في الأمكنة وفي خطواتك، ومع ذلك قد لا تستدل عليها لأن مدينة أين قد تكون الشعر نفسه، فأنت ببساطة تبحث عن الشعر في الأمكنة التي تزورها خطواتك، وهكذا تصبح مثل جاسون الإغريقي في بحثه عن الجزة الذهبية، وجاسون لم يجد الجزة الذهبية إلا بعد صراع مرير ومغامرات كبرى قد تستغرق الحياة بأكملها، فحتى أفلاطون عندما كان يفكر بالمدينة الفاضلة كان يفكر فيها شعريا.
ديوان “غيوم فوق جسر أبريل” للشاعر العماني الذي أثرى المكتبة العربية بأكثر من 10 دواوين
البحث عن لؤلؤة
من بين العناوين التي اصطدمت بها في بداية حياتي وأعجبني هو عنوان “من يفرك الصدأ” للشاعر العراقي حسين مردان (1927-1973)، فخذ مثلا هذا العنوان، المعروف أن الصدأ يفرك في أواني المطبخ، والمفردة “صدأ” بالعراقية هي “الزنجار”، لكن العنوان يحيل إلى فرك اللغة من تراكمات ثقيلة عليها، والشاعر يبحث عن اللمعة، عن تلك اللؤلؤة التي يبحث عنها.
جوهر الموضوع
العناوين الأخرى تأتي من خلال المواضيع التي تم تناولها، فالنقد مثلا غير القصة أو الرواية أو الفنون أو حتى العلوم، هناك آليات في اختيار العناوين، ففي رواية “كافكا” (الامتساخ) أو (المسخ) -وفق بعض الترجمات العربية- يظهر العنوان في إطار العمل الروائي، فجريجوري سامسا (تاجر مسافر وأهم شخصيات الرواية) يستيقظ وقد تحول فجأة إلى صرصار، أي تحول إلى كائن آخر، لكنه يملك حسا بشريا.
متشابهات
فكرة التناص في العناوين هي فكرة المتشابهات، فهناك عناوين تكاد تكون متشابهة، فحتى عنوان نجيب محفوظ “حب تحت المطر” يوجد مثله في أعمال كتاب آخرين، كما أنه موجود أيضا في أفلام السينما، وهنا لا نتحدث عن ملكية فكرية، بل عن مقاربات متشابهة في العناوين، بعيدا عن محتوى النصوص.