يشكل الوالدان أول مصدر للأمان والعاطفة والثقة لأبنائهم، خاصة خلال المراحل الأولى من حياتهم، ولذا عندما يسيء بعض الآباء معاملة أبنائهم قد يؤدي ذلك إلى جرح عميق لدى الأبناء، ويتطلب تجاوز هذا الأذى وآثاره كثيرا من الجهد، حتى يتمكن الابن من المضي قدما وترك الماضي بذكرياته.
ومع مرور الوقت يصبح الغضب المتراكم الذي يشعر به الابن مثل الأصفاد التي تربطه بمن سبّب له هذا الأذى، وتعيق حركته وانطلاقه نحو الحياة. ورغم صعوبة تجاوز هذا النوع من الغضب والألم تجاه أقرب الأشخاص، فإن العمل على ترك ذلك الماضي وتفريغ الغضب وقبول ما حدث بغية التصالح معه، هو أمر مهم جدا كي لا تصبح أسير الماضي.
ويمكننا في البداية أن نميّز بين التسامح والنسيان كما أوضحت الاختصاصية النفسية -إيمي لو- في مقالها بموقع “سيكولوجي توداي” (Psychologytoday) حيث تقول إيمي “إن النسيان لا يعني التسامح، بل يعد تستّرا على الغضب الكامن بداخلنا، وانتقالا قبل الأوان إلى المغفرة الزائفة”.
وحتى لو شعرنا بالارتياح مؤقتا ستأتي بقايا صدمات الماضي وتطاردنا عندما لا نتوقع ذلك، وقد يصدر ذلك على هيئة أفعال متهورة، أو غضب تجاه من نحبهم، كما يمكن أن ينعكس بوجه غير واضح على علاقاتنا ومعاملتنا مع الآخرين، وأفكارنا وتفسيراتنا لما يحدث حولنا.
كيف يمكن تجاوز الغضب؟
تجاوز الألم والتصالح مع الماضي لا يعد أمرا سهلا، ولذلك لا تتعجل ولا تغضب من نفسك إذا تطلّب الأمر كثيرا من الوقت، ويمكن تقسيم العملية إلى عدد من الخطوات لتحقيق الهدف.
الخطوة الأولى: مواجهة الحقيقة
كما يقال إن معرفة المشكلة هي نصف الحل، فالاعتراف بأن هناك مشكلة واتخاذ قرار بمواجهتها رغم ما تسببه من ألم، أول خطوة في طريقك.
الخطوة الثانية: المشاركة
إن مشاركة ما تشعر به من ألم مع من تحب يساعدك على تخفيف هذا الألم، ويمكنك البدء مع شخص واحد، وربما يكون المعالج النفسي، وإن لم يتوفر فيمكنك كتابة مشاعرك في مذكراتك الشخصية.
الخطوة الثالثة: تقبل مشاعرك
تعد هذه الخطوة صعبة بالنسبة إلى كثيرين، فعندما تدرك أن ما تشعر به من مشاعر سلبية تجاه الوالدين قد يؤلمك أيضا فإنك ستبدو غير مقدّر ما بذلوه من أجلك، وربما ستشعر بالعقوق وإنكار فضلهم، ولذلك من الضروري تقبّل ما تشعر به من غضب، وتفهّم أسبابه دون تحويل ذلك الشعور بالخزي تجاه نفسك.
الخطوة الرابعة: بإمكانك أن تحزن
يمكنك أن تبكي، لا بأس بذلك، بل هي خطوة مهمة في طريقك أن تحزن وتأخذ ما تحتاجه من الوقت لكي تعبر عن ذلك. اترك الطفل الذي بداخلك يعبر عن حزنه وغضبه مما مرّ به، وبما شعر به من خذلان وقهر في الوقت الذي لم تتمكن فيه من التعبير عن كل ذلك.
ولا تخفْ من أن تظل طوال حياتك أسيرا لهذا الحزن، سيمر كما مر ما قبله ولكن هذه المرة ستجد في نهايته الحرية من هذا الغضب الذي بقي في داخلك سنوات.
إذا تغير تعامل والديك معك نحو الأفضل، حاول ألا تجعل غضب الماضي يحول بينكما
الخطوة الخامسة: دمج الماضي بالحاضر
بعد أن أمضيت ما يكفي من الوقت في الماضي حان الوقت للرجوع إلى الحاضر، وأن تنظر للأمور بعقلك الحالي نظرة واقعية وناضجة، لتراها بكلا جانبيها بما فيها من حب وكراهية.
الخطوة السادسة: كن معهم كما هم اليوم
ما حدث في الماضي كان مؤلما ولا يمكن تغييره، ولكن يمكن تغيير حاضرك وألا تسمح لهذا الغضب أن يستمر في علاقتك بوالديك. وقد لا يكون الاعتذار أو إصلاح ما حدث ممكنا، ومع ذلك يبقى على عاتقك أن تتعلم إدارة مشاعرك، وما يمكن أن يحفز مشاعر الماضي لديك.
وإذا تغير تعامل والديك معك نحو الأفضل فحاول ألا تجعل غضب الماضي يحول بينكما، وحاول إصلاح العلاقة. وأما إذا كانت أسباب الأذى مستمرة، فيمكنك وضع حدود صحية تحفظ لك سلامتك النفسية، وتمكّنك من التواصل معهم.
وعند التصالح مع غضبك تجاه والديك، ستتمكن من رؤيتهم بعينك وعقلك البالغ الحالي بعيدا عن عقلية الطفل الذي كان يرى أن أباه وأمه بطلان خارقان، فيمكنك الآن إدراك أنهما ليسا خارقين، وأن ما تسبّبا فيه قد يكون عن جهل أو جراء ما تعرضوا هم له من صدمات، أو أنه كان يصبّ في مصلحتك في نهاية المطاف.
وسيمكّنك ذلك من أن تنظر لهم بعين الرحمة، وتغفر ما حدث في الماضي، وإذا استطعت أن تعفو عما فعلوه وأن تحسن إليهم فسينعكس ذلك على سعادتك وراحتك النفسية قبل أن ينعكس عليهم.
جميعنا نتعرض للمواقف المؤذية والجارحة ممن حولنا، ولكن ما يميز بعضنا هو قدرتهم على معرفة هذا الألم وتجاوزه والتعلم منه ليضيف خبرة جديدة إلى خبراتهم، ويمكّنهم من التعاطف مع أنفسهم ومع غيرهم، ويزيد قدرتهم على فهم آلامهم وألام من يحبون دون الحكم عليهم، بدل إبقاء هذا الأذى في داخلهم ونقله إلى من حولهم.