في عام 2012 وبالتزامن مع عرض فيلم “الحب” (Amour)- الذي تناول فيه الكاتب والمخرج مايكل هانيكه مشكلة الخرف وتأثيراته على الكبار وذويهم، وحصد أكثر من 80 جائزة- قدم فلوريان زيلر أكثر كتّاب المسرح إثارة في عصرنا -بحسب وصف صحيفة “ذا نيو يوربان” (The New European)- معالجة أخرى لنفس المشكلة في مسرحية “الأب” التي حققت نجاحا كبيرا على مسارح باريس ولندن ونيويورك، من بين حوالي 12 مسرحية لزيلر عرضت في 45 دولة.
ليعود زيلر بعد 8 سنوات ويحول النص المسرحي إلى فيلم “الأب” (The Father)، ليكون أول عمل سينمائي من تأليفه وإخراجه، يقدم فيه السير أنتوني هوبكنز الحائز على الأوسكار أحد أكثر الأدوار تأثيرا وعاطفية في حياته المهنية، وهو يجسد تغير عالم الآباء كبار السن من حولهم تحت تأثير الخرف.
وتتألق أمامه النجمة الإنجليزية أوليفيا كولمان الحائزة على الأوسكار في دور ابنته التي تشاركه معاناته.
انطلق العرض الأول للفيلم في “مهرجان صندانس السينمائي” (Sundance) يوم الاثنين 27 يناير/كانون الثاني الماضي، وينتظر عرضه للجمهور في 18 ديسمبر/كانون الأول القادم.
معالجة مؤثرة جدًا
فيلم “الأب” وصفه كاتبه ومخرجه فلوريان زيلر بأنه “يتناول موضوعا عالميا في هذه اللحظة بالذات من حياتنا، مع الشعور بالوحدة والخرف والمرض العقلي وارتفاع معدلات الانتحار”.
وقدم الفيلم صورة قاسية ومثيرة لما يمكن أن تشعر به عندما تفقد سيطرتك على الواقع، فهو -بحسب الناقد السينمائي بنيامين لي– “فيلم عن الرعب النافذ للعظام من التعايش مع الخرف، وسيطاردني لأسابيع”.
لذا يتوقع النقاد أن يحقق نجاحا عالميا يجعل منه علامة بارزة في مسيرة زيلر الذي أبدع دراما حادة مربكة ومرهقة، بالتناوب بين أنتوني هوبكنز وأوليفيا كولمان على مدى 97 دقيقة، مما يجعلهما جديرين بمجد الأوسكار، حيث تعود آن (أوليفيا كولمان) إلى البيت وتحيي والدها قائلة “مرحبا أبي”، فيرد الأب أنتوني (أنتوني هوبكنز) بأنه لا يعرف من هي، ولا حتى يعرف من هو.
أنتوني الأب الإنجليزي الذي تجاوز الـ80، لكنه لا يزال لاذعا ومعتدا بنفسه، ويصر على أن يعيش بمفرده في شقته الكبيرة الفخمة المليئة بالكتب في لندن، ويحاول أن يتحدث بلطف ليجعل من حوله يعتقدون أنه لا يزال بخير، لكنه سرعان ما يطرد كل ممرض يأتي لمساعدته، صائحا: أنا لست بحاجة إليك، لست بحاجة إلى أي شخص.
وهذا يجعل آن تشعر بأنها في حاجة ماسة إلى المساعدة، فلم يعد بإمكانها القيام بمهام حياتها بشكل طبيعي وهي ترى ذاكرة أبيها تتداعى بين مد وجزر، وقبضته ترتخي وهو يحاول الإمساك بهويته وماضيه، ويكاد يقتلها الحزن على فقدانه رغم أنه يعيش ويتنفس أمامها.
ويدفعها اليأس للتساؤل عن حقها في الحياة وهي تخطط للانتقال من لندن إلى باريس، لكنها تريد ضمان سلامة أنتوني، وتوفير شخص يهتم به قبل مغادرتها، مما يُدخل حالة أبيها في طور جديد.
ذكاء التلاعب البصري
حاولت العديد من الأفلام -التي تناولت مشكلة الخرف- أن تنقل الحالات الذهنية للمريض من خلال وسائل تقليدية مباشرة، مثل التصوير الدوراني العشوائي والمؤثرات الخاصة والمونتاج.
لكن أحدا لم ينجح في تصوير غزو فقدان الذاكرة بشكل عميق كما فعل زيلر في هذا الفيلم، حيث بدا كأنه يروي لنا القصة بعينيه، مستخدما بعض التلاعب البصري البسيط للغاية في مسكن أنتوني، ليساهم في “رفع مستوى رؤية ضعف الرجل العجوز بوضوح في الفيلم إلى حد كبير”، وفقا للناقد السينمائي تود مكارثي.
وعندما يبحث أنتوني عن شيء ما ولا يجده يسأل ابنته عما إذا كانت متأكدة أنه في شقته الخاصة، لكنها لا تجيبه، وبدلا من ذلك يلاحظ المشاهد اختلافات طفيفة جدا في شكل المكان، وخطوطه العامة تعطي انطباعا وكأن الرجل ليس في المكان الذي يعتقد أنه موجود فيه فعلا.
وهكذا تتلاعب كاميرا زيلر بتصورات الرجل العجوز للواقع، باستخدام تقنية يتم تغييرها بمهارة من مشهد إلى مشهد، لتنقلنا من حالة إلى حالة بشكل مثير للإعجاب على الرغم من أننا ما زلنا في نفس المكان.
ومن خلال إدخال تعديلات مستمرة على ديكورات الشقة يتم إضفاء حيوية على معنى الفيلم وتأثيره النهائي، في تأكيد على تدهور علاقة العجوز بالواقع.
أداء هوبكنز الأسطوري
إنها تجربة مشاهدة مثيرة لأداء هوبكنز الأسطوري لدور ثمانيني يقاتل ضد احتضار الضوء بطريقة بارعة للتعبير عن الحالة الذهنية المرعبة لشخص مصاب بالخرف “يتمتع بحيوية شاب، لكن عقله عبارة عن سفينة تائهة تبحث عن منارة محاطة بصخور وعرة” على حد وصف ديفيد إيرليش.
وبالإضافة إلى ذلك، كيف يمتلئ كل يوم بالصدمات المفاجئة وهو يحاول أن يشرح ما يمر به بعقلانية لنفسه ولمن حوله، أو عندما يتغير عالمه لكنه يظل صامتا، لإدراكه أن أي محاولة منه للتساؤل عما يحدث لن تجد آذانا صاغية.
كذلك رد فعله المعقد والذي لا يخلو من بعض الفكاهة عندما يجد رجلا غريبا يجلس في مكتبه ويقرأ الجريدة وكأنه يملك المكان، ويدعي أنه زوج ابنته آن التي ستهرب إلى باريس مع رجل آخر، وأنه (أنتوني) ضيف مؤقت في شقتهما، ليحول هوبكنز الموقف إلى فرصة مشؤومة أتيحت لشخص تم تجريده من كل شيء ما عدا قسوته.
ويظل هوبكنز -البالغ من العمر 82 عاما والذي يجيد إبقاء المشاهد على أصابع قدميه- في حالة تأهب دائم، ينتقل من الغضب إلى الانزعاج حتى يبدو كحكاية ميؤوس منها لرجل يفقد أكثر من ذاكرته، رجل يفقد نفسه.
كل هذا دون إغفال ما يخفيه أداء أوليفيا كولمان -كابنة- من ضعف محبب يجعلك تشعر بالدفء.