يحتدم الجدل بين الفينة والأخرى في البلاد العربية والإسلامية بشأن تعيين دُورِ ومؤسساتِ الإفتاء الرسمية نساءً “مفتياتٍ” بين مؤيد ومعارض؛ وهو جدل عززته عوامل متعددة بينها تحكّم سلطان العادة باعتبار أغلب المفتين والفقهاء عبر التاريخ كانوا رجالا؛ والخلط في أذهان الناس بين وظيفتيْ الإفتاء والقضاء، حيث دار خلاف بين الأقدمين في جواز تولي المرأة منصب القضاء، ولم تكن الفتوى كذلك. وهذا ما يجعل الحاجة قائمة إلى التطرق لعلاقة النساء بالإفتاء والفقه والعلم الشرعي عمومًا، للكشف عن مظاهر تلك العلاقة تنظيرا وممارسة؛ وهو ما نسعى إليه في هذا المقال.
الإفتاء النسوي بصدر الإسلام
يطلق الإمام ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) مصطلح “التوقيع عن الله” على ‘صناعة الفتوى‘ التي أشبعها بحثًا في كتابه: “إعلام الموقعين عن رب العالمين”. وللفتوى وممارستها شروط لخصها لنا الإمام النووي (ت 676هـ) بقوله: “شَرط الْمُفْتِي كَونه مُكَلّفا مُسلما ثِقَة مَأْمُونا، متنزِّها عَن أَسبَاب الْفسق وخوارم الْمُرُوءَة، فقيهَ النَّفس سليمَ الذِّهْن رصينَ الفِكر صَحِيح التَّصَرُّف والاستنباط متيقظاً، سواءٌ فِيهِ الحرُّ وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة”. فمدار الفتوى إذن في الإسلام يرجع فقط إلى الملكة العلمية، والوازع الأخلاقي، وصحة النظر والاستنباط.
ولم يكن التصدي للإفتاء في التاريخ الإسلامي يحتاج إلى قرار سياسي بالتعيين عكس القضاء، لأن الفتوى هي: “الإخبار بالحكم الشرعي لا على وجه الإلزام”، كما لم يكن الإخبارُ بالحكم الشرعي يحتاج إلى إذنٍ إلا من علماء يشهدون للتلميذ والتلميذة باستحقاقهما لهذه الدرجة العلمية، التي يطلق على صاحبها في اصطلاحهم لقب ”المفتي” أو “العالم” أو “الفقيه”. ولم يكن إطلاق الألقاب عند الأقدمين سهلا، خصوصا الألقاب التي تترتب عليها مسؤوليات بحجم الفتوى التي يتحمل صاحبها مسؤولية “التوقيع عن رب العالمين”.
ولذا نجد الإمام القاضي عياض اليحصبي (ت 544هـ) يقول: “لا نرى أن يسمى طالب العلم فقيهاً حتى يكتهل، ويكمل سنه، ويقوى نظره، ويبرع في حفظ الرأي، ورواية الحديث وتبصره، ويميز طبقات رجاله، ويحكم عقد الوثائق، ويعرف عللها، ويطالع الاختلاف، ويعرف مذاهب العلماء، والتفسير ومعاني القرآن؛ فحينئذ يستحق أن يسمى فقيهاً، وإلا فاسم ‘الطالب‘ أليق به”. ومن هذا نعلم أن كل موصوفة بالفقه في كتب التراجم تستحق الإفتاء، كما نصت هذه الكتب على أن نساء كثيرات تولين الإفتاء.
وقد ذكر العلامة ابن القيم أن “الذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله (ص) مائة ونيف وثلاثون نفسا، ما بين رجل وامرأة”، وذكر منهم نحو اثنتين وعشرين مفتية، وهن حسب ترتيب فتاواهن قلة وكثرة: أم المؤمنين عائشة، وأم المؤمنين أم سلمة، وأم عطية، وأم المؤمنين صفية، وأم المؤمنين حفصة، وأم المؤمنين أم حبيبة، وليلى بنت قانف الثقفية، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شَريك، والحولاء بنت تويت، وأم الدرداء الكبرى، وعاتكة بنت زيد بن عمرو، وسهلة بنت سهيل، وجويرية أم المؤمنين، وميمونة أم المؤمنين، وفاطمة بنت رسول الله (ص)، وفاطمة بنت قيس، وزينب بنت أم سلمة، وأم أيمن (الحبشية حاضنة رسول الله ص)، وأم يوسف (حبشية كانت تخدم رسول الله ص)، والغامدية.
والباحث في تاريخ الإفتاء عبر العصور الإسلامية يدرك أن هذا العدد بنسبته المئوية المرتفعة من “الموقعات عن رب السماوات” يعكس مدى حضور المرأة ودورها فقها وإفتاء في العصر النبوي، وهذا الحضور أو الازدهار يؤكد لنا مقولة عبد الحليم أبي شقة التي جعلها عنوانا لموسوعته الرائدة: “تحرير المرأة في عصر الرسالة”.
عائشة وصناعة الفتوى
تجلى حضور النساء النوعي بين ممارسي الإفتاء في القرن الأول في فقه أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ) التي عدها مؤرخو الفتاوى ضمن الصحابة السبعة المكثرين في “التوقيع عن الله”، وذلك لأنها كانت “أفقه نساء الأمة على الإطلاق” كما قال الإمام الذهبي (ت 748هـ) وابن القيم، ولأنها حسبما أثبته صاحب “الطبقات الكبرى” ابن سعد البصري (ت 230هـ) “استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وهلمّ جرا إلى أن ماتت”، و”كان الأكابر من أصحاب رسول الله (ص) عمر وعثمان بعده يرسلان إليها فيسألانها عن السُّنن”.
كان لقرب عائشة (ض) من رسول الله (ص) دور كبير في كثرة مروياتها حديثا وإفتاء، وقد أكثرت من رواية الأحكام الفقهية حتى زعم الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) أنها “حُمل عنها رُبع الشريعة”، ومجمل مرويات عائشة من صحيحيْ البخاري ومسلم حوالي “مئتين ونيفا وسبعين حديثا لم تخرج غير الأحكام منها إلا يسيرا”، وجمع الشيخ سعيد فايز الدخيل فقهها وفتاواها في مجلد ضخم سماه: ‘موسوعة فقه عائشة أم المؤمنين.. حياتها وفقهها‘.
وقد اشتهرت عائشة بفتاوى استقلت بها وآراء فقهية انفردت بها، ومن ذلك انفرادها بفتوى عدم التفريق بين ولد الزنا وغيره في إمامة الصلاة ما دام هو الأقرأ لكتاب الله والأفقه في الشرع، إذْ “ليس عليه من خطيئة أبويه شيء، [و] لا تزر وازرة وزر أخرى”.
ومن انفراداتها النسوية قولها بجواز سفر المرأة بدون محرم مطلقا إذا أمنت على نفسها من الفتنة، فـ”عن الزهري قال: ذُكر عند عائشة المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، فقالت عائشة: ليس كل النساء تجد محرما”. ويلاحظ الشيخ سعيد الدخيل -في كتابه عن فقه عائشة المذكور سابقا- أن كثيرا من فتاواها “ينطلق منها بصفتها أنثى فقيهة متميزة، لأنها عاشت مع الرسول صلى الله عليه وسلم تحت سقف واحد، وعلمت منه ما لم يعلمه غيرها من الرجال”.
لم يكن دور عائشة الفقهي مقتصرا على الإفتاء والتحديث بالسنن فحسب؛ بل كانت تناظر الصحابة وتستدرك على فتاوى كبارهم مثل أبيها أبي بكر الصديق وعمر الفاروق؛ وقد جمع العلامة بدر الدين الزركشي (ت 794هـ) استدراكاتها على الصحب الكرام في سفر ممتع بعنوان: “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة”. كما خرَّجت مفتياتٍ مارسن الإفتاء بعدها، وأخذ عنها الفقه والعلم خلق كثير بعضه من نساء أهل بيتها مثل: أختها أم كلثوم وبنت أخيها عبد الرحمن حفصة.
وممن تخرجن على يد عائشة وحملن راية الإفتاء بعدها: “عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية… تريبة عائشة وتلميذتها…، وكانت عالمة فقيهة حجة كثيرة العلم”؛ و”صفية بنت شيبة أم منصور الفقيهة العالمة.. القرشية”؛ و”أم الدرداء الصغرى.. الفقيهة (ت بعد 81هـ)، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد”، وقد اتفق العلماء “على وصفها بالفقه والعقل والفهم والجلالة”؛ كما يقول الإمام النووي.
عالمات يدرسن المشاهير
في عهد التابعين اشتهر في المدينة النبوية سبعة علماء أجلاء بلقب فقهاء المدينة السبعة، وتفيدنا كتب التراجم بأخذ كل واحد من هؤلاء السبعة المشاهير العلمَ عن فقيهات؛ فأولهم سعيد بن المسيب (ت 94هـ) أخذ عن عائشة وأم سلمة؛ وعروة بن الزبير (ت 93هـ) أخذ عن أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق وعن خالته أم المؤمنين عائشة التي “لازمها وتفقه بها”؛ والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (ت 107هـ) تربّى “في حجر عمته أم المؤمنين عائشة وتفقه منها وأكثر عنها”؛ وسابعهم الفقيه الشاعر عبيد الله بن عبد الله الهذلي (ت 98هـ) أخذ العلم عن عائشة وأم سلمة.
لم يُؤثر عن الأئمة الأربعة تعلم ذو بال على أيدي النساء؛ إلا أن إمام المدينة مالك بن أنس (ت 179هـ) أخذ عن امرأة هي عائشة بنت سعد بن أبي وقاص (عائشة الصُّغرى)، وأخذت عنه هو ابنته فاطمة التي ذكرها الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842هـ) في رواة موطأ أبيها، وقال: “كانت لمالك ابنة تحفظ علمه…، وكانت تقف خلف الباب فإذا غلط القارئ [من طلبته] نقرتْ الباب فيفطن مالك فيرد عليه”. وكان سبب انصراف الإمام الأعظم أبي حنيفة إلى الفقه والفتوى سؤال امرأة.
وفي العصور اللاحقة نجد أن أشهر شخصية فقهية هو الإمام أبو محمد ابن حزم (ت 456هـ) الذي عُرف بمذهبه الظاهري وتفننه في سائر العلوم؛ يقول عن علاقته العلمية والتكوينية الأولى بالنساء: “ولقد شاهدتُ النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن…؛ وهن علمنني القرآن وروينني كثيراً من الأشعار ودربنني في الخط”. وهذه الصحبة المبكرة من هذا العلَم الفذ للنساء جعلته أحد أكابر محللي النفس البشرية في التاريخ القديم، وخصوصا الأمور المرتبطة بالنساء.
وحين نتّجه شرقا في القرن الخامس نفسه نجد رجلا بحجم الخطيب البغدادي “حافظ المشرق” يسمع الحديث من الفقيهة المحدثة طاهرة بنت أحمد التنوخية (ت 436هـ)، وقد ترجم الإمام ابن عساكر (ت 571هـ) لـ80 شيخة من شيخاته في ‘معجم النسوان‘، وجمع أحد طلاب الحافظ السِّلَـفي (ت 576هـ) معجما لشيخاته، والإمام الذهبي روى عن جماعة من النساء ذكرهن في معجم شيوخه.
كما صرّح الإمام نجم الدين ابن فهد المكي (ت 885هـ) بالأخذ عن 130 شيخة، وترجم الحافظ ابن حجر العسقلاني لـ170 محدثة في كتابه ‘الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة‘ منهن 54 شيخة له، وفي كتابه ‘التقريب‘ ترجم لـ824 امرأة ممن اشتهرن بالرواية. ولتلميذه السخاوي (ت 902هـ) حوالي 85 شيخة ذكرهن في ‘الضوء اللامع‘، وشيخات معاصره الحافظ السيوطي (ت 911هـ) يصلن 44 شيخة.
وإذا كان اشتُهر عن الإمام ابن شهاب الزهري (ت 124هـ) قوله: “الْحَدِيث ذَكَرٌ يُحِبُّهُ ذكور الرِّجَالُ وَيَكْرَهُهُ مُؤَنَّثُوهُمْ”؛ فإن الإمام الذهبي رسّخ في أذهان الناس مقولته :”وما علمت في النساء من اتـُّهِمتْ [بوضع الحديث] ولا من تركوها” في روايته. وهاتان المقولتان تعبّران عن زمانيْ قائليْهما ثقافيا؛ ففي زمن الزهري كان الحديث صنعة متمحّضة للرجال، وفي زمن الذهبي انتشرت المحدِّثات في العالم الإسلامي، وخصوصا في الأسر العلمية لأن الرحلة في طلب العلم والحديث لم تكن متاحة لربات الخدور.
ولغة الأرقام تقول إن عدد المحدثات في القرنين السابع والثامن وصل في مصر والشام حوالي 334 محدِّثة، أخذ عنهن مشاهير المحدّثين في ذلك العصر ممن ضربنا لهم الأمثال بابن حجر وغيره؛ وعمومًا لا يوجد مشتغل بالحديث في تلك العصور إلا أخذ -على الأقل- عن امرأة محدّثة.
مفتيات عبر الأزمنة والأمكنة
وإذا تطرقنا إلى مجال الفقه وصناعة الفتوى تحديدا؛ فسنجد أنه لم يخلُ قُطر من أقطار الإسلام في عصر من العصور من وجود نساء “موقعات عن الله”؛ ففي القرن الثالث الهجري نلاقي في القيروان “فقيهتَيْ تونس” -حسب تعبير المؤرخ للثقافة التونسية حسن حسني عبد الوهاب- الأولى: أسماء بنت أسد بن الفرات (توفيت نحو 250هـ) التي تعلمت على يد أبيها، وشاركت في مجالس المناظرة والسؤال التي كان يعقدها، وتفقهت على مذهب أبي حنيفة رغم شهرة أبيها في المذهب المالكي. أما فقيهة تونس الثانية فهي خديجة بنت الإمام سحنون (توفيت نحو 270هـ) المؤسس الثاني للمذهب المالكي وناشره في الغرب الإسلامي، وصفها مترجم رجال الفقه المالكي القاضي عياض بأنها: “من خيار الناس”.
وغير بعيد عن تونس وفي العصر نفسه؛ نجد في مصر الفقيهة أخت إسماعيل بن يحيى المُزَني (توفيت 264هـ) -ناصر المذهب الشافعي- التي كانت تنافسه وتناقشه، ومن طريف أثر منافستها له أنه أغفل ذكرها فكانت تعرف فقط بـ”أخت المزني”. وأفاد السيوطي (ت 911هـ) في ‘حسن المحاضرة‘ بأنها “كانت تحضر مجلس الشافعي”؛ فقد علق الفقيه الرافعي على قولٍ “رواه المزني في المختصر عمن يثق به عن الشافعي” بقوله: “وذكر بعض الشارحين أن أخته روت له ذلك عن الشافعي… فلم يحب تسميتها”.
وكما أغفل أخوها المزني اسمها فإن كتب التراجم أهملت أخبارها وتاريخ وفاتها، سوى ما قاله السيوطي من أنها “ذكرها ابن السبكي والإسنوي في الطبقات”. والظاهر أنها هي والدة الإمام أبي جعفر الطحاوي الأزدي (ت 321هـ)؛ إذ إن المزني خاله ولم يُذكر له غيرها من الأخوات.
وفي الأندلس ذكر مؤرخها ابن عميرة الضبي (ت 599هـ) فاطمة بنت يحيى بن يوسف المُغامي (ت 319هـ)، ووصفها بأنها “عالمة فقيهة ورعة، استوطنت قرطبة وبها توفيت…، ولم يُرَ على نعش امرأة ما رُئي على نعشها” من كثرة المشيعين. وفي العراق نجد أم عيسى بنت إبراهيم الحربي (ت 328هـ) “كانت عالمة فاضلة تفتي في الفقه”، وأمة الواحد ابنة القاضي الحسين المحاملي (ت 377هـ) “برعت في مذهب الشافعي، وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة” شيخ الشافعية (ت 345هـ).
وفي خراسان بأقصى الشرق؛ تخبرنا كتب التراجم عن أم الفضل عائشة بنت أحمد الكُـمْساني المروزية (ت 529هـ) التي وُصفت بأنها ”امرأة عالمة فقيهة…، سمعت جدتها عيني بنت زكريا المكي الهلالي”. وفي القرن نفسه نقرأ عن “العالمة.. التقية شهدة بنت أحمد” الإبَري (ت 574هـ)، وقد “برعت في العلوم…، اشتهر فضلها في الآفاق ونما بالعراق، ولها مشاركة في كثير من العلوم ولا سيما الفقه..، وكانت تجلس من وراء حجاب وتقرئ الطلاب، وتتلمذ عليها خلق كثير”.
ومن أشهر الفقيهات اللاتي مارسن الفتوى وتركن بصمات في المذهب الحنفي: المفتية فَاطِمَة بنت علاء الدين السَّمرقَنْدِي (توفي والدها نحو 540هـ) مؤلف كتاب ‘تحفة الفقهاء‘، وزَوْجَة الإِمَام عَلَاء الدّين الكاساني (ت 587هـ وتوفيت هي قبله) صَاحب كتاب ‘بدائع الصنائع‘. فقد “تفقهت على أَبِيهَا وحفظت مصنفه ‘التُّحْفَة‘.. [و] كَانَت تنقل الْمَذْهَب نقلا جيدا، وَكَانَ زَوجهَا الكاساني رُبمَا يهم في الْفتيا فَتَردهُ إِلَى الصَّوَاب وتعرّفه وَجه الخطأ فَيرجع إِلَى قَوْلهَا.. وَكَانَت تُفْتِي… وَكَانَت الْفَتْوَى أَولا يخرج عَلَيْهَا خطها وَخط أَبِيهَا السَّمرقَنْدِي، فَلَمَّا تزوجت بالكاساني صَاحب ‘الْبَدَائِع‘ كَانَت الْفَتْوَى تخرج بِخَطِّ الثَّلَاثَة”، أي توقيعاتهم.
وفي القرن السابع تصادفنا فاطمة بنت الإمام السيد أحمد الرفاعي الكبير (ت 607هـ) كانت “فقيهة في دين الله”، والعالمة الفاضلة “زينب ابنة أبي القاسم الشهيرة بأم المؤيد… أدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة…، وممن أجازها.. الزمخشري (ت 539هـ) مؤلف [تفسير] ‘الكشاف‘، وممن أجازتهم من أكابر العلماء العلامة المؤرخ.. قاضي القضاة ابن خلّـكان (ت 681هـ)”.
وقد اشتهر القرن الثامن بكثرة المحدثين والفقهاء الموسوعيين، وتسعفنا الموسوعة التي ترجم فيها الحافظ ابن حجر لأعيان هذا القرن ‘الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة‘ بتراجم لكثير من الفقيهات والعالمات والمحدّثات كما تقدم. وقد شاع في هذا العصر إطلاق أسماء وألقاب على العالمات ذات دلالة طريفة، ومن تلك الأسماء والألقاب: سِتُّ العلماء، وست الفقهاء، وست القضاة، وست الكَتَبة، وست الوزراء، وست الملوك.
وممن أطلق عليهن ذلك: سِتّ الْعلماء بنت شيخة رِبَاط درب المهراني (ت 712هـ)؛ وسِتّ الْفُقَهَاء أمة الرَّحْمَن ابْنة إِبْرَاهِيم الصالحية الحنبلية (ت 726هـ)؛ وسِتّ الْفُقَهَاء بنت الْخَطِيب شرف الدّين العباسي (ت 765هـ)، حدثت هِيَ وأخوها عَلَاء الدّين مَعَ الْحَافِظ أبي الْحجَّاج الْمزي بأجزاء من أمالي الْجَوْهَرِي؛ وأختها سِتّ الْقُضَاة بنت الْخَطِيب. كما ذكر الحافظ الذهبي كلا من: ست الوزراء بنت عمر بن المُنجى (ت 716هـ) فوصفها بـ”مسندة الوقت”؛ وست الملوك فاطمة بنت علي بن أبي البدر (ت 710هـ).
وفي القرن التاسع حصر بعض الباحثين عدد الفقيهات اللائي لهن علاقة بمكة المكرمة إقامة أو جوارا أو زيارة بحوالي 270 فقيهة، كما ذكرت إحدى الكاتبات أن عدد النساء اللاتي ترجم لهن السخاوي في كتابه ‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع‘ يصلن لـ1080 سيدة، معظمهن من الفقيهات المحدثات. وهذا يدل على أن الجهد النسائي في جانب الفقه والفتوى يحتاج لإعادة تدوين وتقييم.
ومن بين أعيان القرن العاشر الهجري تبرز لنا “الشيخة.. العالمة العاملة” أم عبد الوهاب بنت الباعوني الدمشقية (ت 922هـ)، وهي “أحد أفراد الدهر.. حُملت إلى القاهرة ونالت من العلوم حظًا وافرًا، وأجيزت بالإفتاء والتدريس”. وفي القرن الحادي عشر تلاقينا في مكة المحدثة قريش بنت عبد القادر الطبري (ت 1107هـ)، كانت “فقيهة.. من بيت علم كبير..، كانت تُقرأ عليها كتب الحديث في منزلها”، وقد عدها صاحب ‘فهرس الفهارس‘ من “مسانيد الحجاز السبعة الذين قويت بهم شوكة الحديث في القرن الحادي عشر وما بعده”.
واعظات يعتلين المنابر
توقف مؤرخو القرن الثامن الهجري كثيرًا عند حياة أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية (ت 714هـ) التي سمي بها “رباط البغدادية” بالقاهرة عند تأسيسه سنة 684هـ؛ فوصفها الذهبي بأنها “الشيخة المفتية الفقيهة العالمة.. الحنبلية”. وذكر المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ) أنها “كانت تصعد المنبر وتعظ النساء… [و] انصلح بها جماعة نساء في دمشق…، [ثم] تحولت بعد السبع مئة إلى مصر، وانتفع بها في مصر من النساء جماعة، وبعُد صيتها”.
ومن وظائف ذلك الرباط الذي سُمي باسمها أنه كانت “تودع فيه النساء اللاتي طُـلّقن أو هُجرن، حتى يتزوّجن أو يرجعن إلى أزواجهنّ صيانة لهنّ، لما كان فيه من شدّة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات”. وعن علاقة هذه المفتية الحنبلية البغدادية بالفقه يقول الصفدي: “تفقهت عند المقادسة بالشيخ شمس الدين وغيره… وكانت تدري الفقه وغوامضه الدقيقة ومسائله العويصة”.
وقد بلغت من حضورها العلمي والفقهي أن رجلا بحجم ابن تيمية رحمه الله تعالى كان يتعجب من عملها ويثني على ذكائها. ولم يكن ابن تيمية متفردًا بإعجابه بها؛ فقد ورث عنه تلميذه الحافظ الذهبي ذلك الإعجاب حتى قال فيها: “وكان لها قبول زائد، ووقع في النفوس، زرتُها مرة وأعجبني سمتها وتخشعها..، وقلّ من أنجب من النساء مثلها”.
وقبل هذه الجليلة البغدادية؛ نجد شيخة دمشقية أخرى كان صعود المنبر سببا في تسميتها بـ”العالمة”، وهي أم الفقيه الشافعي شهاب الدين الْأنْصَارِيّ (قَاضِي الْخَلِيل) المعروف بِـ”ابْن العالمة”، وكان سبب تسميتها بالعالمة كما روى قطب الدين اليونيني (ت 726هـ) “أن الملك العادل الكبير لما توفي (سنة 615هـ) نظروا امرأة تتكلم في العزاء فذكروها وأنها من الصلحاء، فأتوا في طلبها فتبرأت من ذلك لعدم خبرتها بما يليق بذلك الحال، فألزموها وأخذوها مكرهة، وكانت تحفظ كثيراً من ‘الخُـطَب النُّـباتية‘ (= خُطب ابن نُباتة المتوفى سنة 374هـ)؛ قالت: وكنت أسأل الله تعالى في الطريق ألا يفضحني في ذلك المحفل وأنا أرجف فَرَقاً من ذلك.
قالت: فلما حضرتُ وصعدت المنبر سُرّي عني، فقرأت شيئًا من القرآن وخطبت بـ‘خطبة الموت‘…، وهي من طنّانات الخُطب؛ فاتفق في ذلك المجلس من البكاء.. ما لم يتفق في غيره. واشتهرت تسميتها بالعالمة”. وقد اشتهر بلقب ‘ابن العالمة‘ عَلَم آخر هو “أبو الفضل ابن العالمة عُرف بالإسكاف (ت 530هـ)”، وكذلك أحْمَد بن أسعد أَبُو الْعَبَّاس الشهير بابن العالِمة “دُهْن اللّوز الّتي كانت عالمة دمشق”.
زهد في التأليف يوّلد الإهمال
رغم هذا الحضور العلمي اللافت للنساء في مختلف العصور؛ فإن كتب الفقه أهملت ذكر أقوالهن الفقهية ومذاهبهن ما عدا أقوال أمهات المؤمنين وبالأخص عائشة، وذلك راجع في رأينا إلى أربعة أمور؛ الأول: أن الفقهاء اعتمدوا في نقل الأقوال على شهرة القائل وتصدره، ولذا لم ينقلوا في كتب الخلاف إلا عن “مشاهير أئمة الأمصار”. الثاني: أن أغلب الفقيهات كُنّ في كنف والد أو زوج عالميْن يغطيان على ذلك التميز النسوي.
الأمر الثالث: أن النساء العالمات نادرا ما ألّـفن كتبا، وللكتب وحدها القدرة على إبقاء الأقوال حية وخالدة. الرابع: أن المرأة في ثقافة الاجتماع العربي تعتبر “عورة”، ويرى بعض الدارسين أن العرب استعادوا عادات ما قبل الإسلام في قضايا المرأة والاجتماع، ولذا نجد المزني لم يصرح باسم أخته وهو رجل من قبيلة مُزينة المضرية.
وقد استطاع بعض الباحثين بعد جهد جهيد أن يحصر فقط اسم 36 مؤلفة منذ القرن الثاني الهجري وحتى القرن الثاني عشر، وأغلب تلك المؤلفات غير موجود وإنما ذكرت عناوينَه كتبُ التراجم استطرادا. وهذا العدد الضئيل جدا يعكس زهد العالمات في كتابة مؤلفات تحفظ علمهن، وذلك الزهد جعل كتب التراجم -وخصوصا كتب طبقات الفقهاء- تهمل ذكرهن.
وقد تعجب الباحث محمد خير رمضان يوسف -بعد جولاته في كتب تراجم فقهاء المذاهب- من إهمالها للنساء الفقيهات وأخبارهن؛ ففي كتاب ‘الجواهر المضية في تراجم الحنفية‘ -الذي يحتوي حوالي 2115 ترجمة- لم يجد من تراجم النساء سوى خمس فقيهات؛ وفي كتب التراجم المالكية لم يجد ترجمة لأي امرأة؛ وكذلك كتاب ‘طبقات الشافعية الكبرى‘ للسبكي (ت 771هـ) فإنه ضاق بمجلداته العشرة عن ذكر أي فقيهة شافعية، ووحده الإسنوي ذكر “أخت المزني” التي لا يُعرف اسمها. وليس في ‘طبقات الحنابلة‘ لابن أبي يعلى (ت 526هـ) ذِكرٌ لأي فقيهة حنبلية، وقد عوّض عن ذلك بذكر النساء اللواتي كُنّ يسألن الإمام أحمد تحت عنوان: “ذكر النساء المذكورات بالسؤال لإمامنا أحمد”.
وهذا الإهمال للتاريخ العلمي للنساء نلمحه في عدة قضايا أندلسية؛ الأولى: خبر أم أبي الوليد الباجي (المتوفى 474هـ)، فقد كانت فقيهة ولم تـُذكر في كتب التراجم إلا بعلاقتها بابنها الذي صححت تاريخ مولده، كما نقل ذلك ابن عساكر الدمشقي.
والقضية الثانية:
نجدها في التراجم التي خص بها صاحب ‘نفح الطيب‘ حوالي عشرين سيدة من مشهورات الأندلس، وهي تراجم تتجلى فيها صور الإهمال بكل وضوح وأسف باستثناءات قليلة؛ فغالب من ذكرهن ذكرها باسم مفرد يشبه اللقب مع نسبة لإحدى المدن الأندلسية، مع إغفال كامل لبقية المعلومات المتعلقة بالاسم الثلاثي، وتاريخ الميلاد، وعلى من تأدبن وتعلمن، ومتى توفين.
وأغرب شيء في ذلك الإهمال تلك الحكاية التي حكاها المقري بصيغة التمريض في نهاية ذكره للمشهورات الأندلسيات، قال: “وحُكي أن بعض قضاة لوشة كانت له زوجة فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل…، وكان في مجلس قضائه تنزل به النوازل فيقوم إليها فتشير عليه بما يحكم به”.
وأما القضية الثالثة؛
فتتجلى في الميزة التي اشتهر بها الغرب الإسلامي من جمع أهله لمختلف فتاوى علمائهم في كتاب واحد، مثل ‘المعيار المعرب والجامع المُغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمَغرب‘ لأبي العباس الونشريسي (ت 914هـ)، ولم تذكر مجلداته الاثنا عشر أي فتوى لأي فقيهة، وهكذا اقتدت به موسوعات الفتاوى التي جُمعت بعد عصره.