تعرّضت إحدى المدن العربية في القرن الثامن عشر الميلادي، لوباء قاتل، أدى لمقتل عدد كبير جداً من سكّانها، كان من بينهم، جميع شعرائها، قاطبة!
وعادة ما يلجأ الإخباريون العرب إلى ربط الوباء بمدينة، كما فعلوا بوباء “عمواس” أو منحه صفة مميزة، كما فعلوا بطاعون الفتيات، ومثله طاعون الأعيان.
وضرب مدينة صفاقس التونسية، طاعون وصف بالرهيب، في سنتي 1784 و1785م، وقيل فيه الكثير عن شدّته وعدد الناس الذين ماتوا فيه. وذكر المؤرخ التونسي الصفاقسي محمود بن سعيد مقديش (1742-1813م) في كتابه المعروف عند بعض المستشرقين الأوروبيين، والمشهور باسم (نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار) أن جميع شعراء “صفاقس” ماتوا بسبب الطاعون.
انقرضوا بالطاعون!
ونقل المؤرخ الذي صار كتابه مرجعاً لأعلام صفاقس بصفة خاصة ويعتبر تاريخاً إسلاميا بصفة عامة خاصة في جزئه الأول، ترجمة للشاعر الصفاقسي إبراهيم الخراط (1738-1836م) وقدّم لها بعبارات مختلفة، ثم ذكر أنه “من أجلّ فقهاء صفاقس وشعرائها” وبأنه بلغ أعلى الرتب “وارتفع بذلك صيته على شعراء زمانه، خصوصاً وقد انقرض الشعراءُ بالطاعون، وبقي بعدهم!”.
ومن الجدير ذكره، أن مديح المؤرخ للشاعر، بأنه صار من أفضل شعراء زمانه “خصوصاً وقد انقرض الشعراء بالطاعون” توحي كما لو أنه لا يمتلك قدرة تنافسية، بسبب موتهم، وبقاء الساحة خالية له وحده. إلا أن المؤرخ يصوّب العبارة ويحددها أكثر بأن الخرّاط أشعر منهم حتى إذا لم يموتوا: “على أنهم لو بقوا، ما نقص مقامه عمّا هو فيه، من علو المقام”.
لكن ما حقيقة هذا الطاعون الرهيب الذي صرع جميع شعراء مدينة، ولم يُبق فيهم، شاعرا واحدا؟
إن طاعون المرحلة التي أشار إليها المؤرخ التونسي، كان مرعبا، وقد تم تأكيده من خلال مصادر غربية تمت ترجمتها إلى العربية، عاصرت أحداث الطاعون، إنما في الجوار من تونس، ليبيا.
الآنسة توللي تؤكد
وكان للقنصل البريطاني في ليبيا، ريتشارد توللي، والذي خدم بلاده في العاصمة الليبية ما بين عامي 1783-1793م، قريبة تدعى “الآنسة توللي” أو “ميس توللي” تعرف اللغة العربية، كما يعرفها هو نفسه، ورافقته في إقامته طيلة سنوات عمله الدبلوماسي، وأقامت مع أسرته في ليبيا، لتترك كتاباً هاماً في تاريخ ويوميات تلك المرحلة، اسمه (عشرة أعوام في طرابلس) والذي نقله إلى العربية الدكتور عبد الجليل الطاهر، أستاذ الفلسفة في الجامعة الليبية.
ذكرت الآنسة توللي، في كتابها، وفي يوميات 24 آب/ أغسطس سنة 1784 أن أحد المراسلين تحدث عن حدوث الطاعون في تونس. ثم تذكر في تاريخ يوميات 5 آذار/ مارس 1785، ما يؤكد حقيقة ما وقع عند الجار التونسي، فتقول: “حسب الروايات الأخيرة الواردة من تونس، والتي تبعد أكثر من ثلاث مئة ميل عنّا، يموت سبع مئة شخص يومياً، من هذا الوباء المخيف”.
ندرة الخشب بسبب كثرة النعوش!
وتواصل “الميس توللي” نقلها تفاصيل الوباء، فتقول إن المراسلين كانوا من نَقلة الوباء ما بين تونس وليبيا، حتى أصبح الريف الليبي بأكمله ملوثاً وأصبحت طرابلس كلها غارقة في وباء الطاعون، وتحدثت عن ما عاناه بعض المصابين بالطاعون، حيث أوصلتهم شدة الألم إلى الجنون، في بعض الحالات. وبعض العائلات انتابها قلق عميق بأنه لن يتبق منها أحد بسبب قوة الطاعون الذي جاء من تونس، إلا أنها تقول إن طاعون طرابلس كان أشد فتكاً من طاعون تونس.
موضوع يهمك?منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، كتم العالم أنفاسه لأكثر من مرة تزامناً مع ظهور العديد من الأمراض التي جاءت لتعيد للجميع…إضافة لكورونا.. أمراض نشرت الرعب بالقرن 21 إضافة لكورونا.. أمراض نشرت الرعب بالقرن 21 الأخيرة
ومن الصور شديدة القسوة التي نقلتها قريبة القنصل البريطاني، أنه بسبب كثرة موتى الوباء، عزّ الخشب الذي كانت تصنع منه حمّالات النعوش، لكثرة الوفيات، فصار الناس يشيعون بالحمل على الأكتاف، مباشرة.
ويؤكد المحققون والمؤرخون، دقة تأريخ الآنسة توللي، حيث الطاعون الجارف ضرب صفاقس، تحديداً سنة 1786م، وقتل عشرات الأساتذة والشعراء والنحويين. وورد في مقدمة كتاب (نزهة الأنظار..) أن الطاعون كان فاحشاً في الناس، في صفاقس، إلى الدرجة التي عطّلَ فيها سير حركة العلم والتعليم في المدينة، في زمان المؤلف والزمان الذي تلاه. ما يؤكد حدة الطاعون الذي تلاقى اثنان، على وصفه بدقة، الآنسة توللي البريطانية، والمؤرخ التونسي محمود بن سعيد بن مقديش.
الطاعون كاد يفني صفاقس لا شعراءها فقط
وضرب تونس الطاعون، في سنوات مختلفة، يذكرها مقديش، منها طاعون سنة 1622 ميلادية، وما بين سنتي 1688و1689م ويقول في الأخير إنه كان يقتل 900 شخص في اليوم الواحد. ثم يحدد المؤرخ، وبما يتلاقى بشكل تام مع ما ذكرته قريبة القنصل البريطاني في كتابها، تاريخ طاعون ضرب تونس وصفاقس ما بين عامي 1784 و1785 ميلادية، وهي السنة التي أرّخت لها “الآنسة توللي” باليوم والشهر والسنة، متحدثة فيها عن مجيء الطاعون إلى ليبيا، قادماً من تونس التي فرغت من شعرائها بسببه، وبسبب كثرة ضرباته التي أنهكتها حتى تعطلت مسيرة الأدب والتعليم في المدينة.
ويشار إلى أن ابن مقديش، لم يحدد بالضبط، في أي طاعون مات شعراء صفاقس، إلا أنه قال عن طاعون سنة 1785 ما يفيد بطاعون فتك بالجميع في صفاقس، حتى بات يقتل 250 شخصا يومياً، ويحصي عدد الصفاقسيين الذين جرفهم الطاعون بخمسة عشر ألفاً، وهو رقم مرعب قياساً بعدد السكان.