ظل كتّاب الخيال العلمي يكافحون لتحقيق المصداقية التي حققتها أنواع الأدب الراقي الأخرى، بينما ظل علماء النفس يرون أن أدب الخيال العلمي يعد هروبا من الواقع.
وكان آخر اتهام من علماء النفس ضد الخيال العلمي هو “فرضية الهجرة الخيالية العظيمة”، التي تشير إلى أن العالم الحقيقي المليء بالبطالة والديون مخيب جدا لآمال جيل من المحبين لذواتهم من النرجسيين الذين يشعرون بالاستحقاق، وبالتالي فإنهم يهاجرون إلى أرض وهمية حيث يمكنهم أن يعيشوا خيالاتهم الفخمة، بحسب جافين ميلر، المحاضر في قسم العلوم الإنسانية الطبية بجامعة غلاسكو.
ويقول ميلر إن مؤلفي دراسة جرت عام 2015 قالوا إنهم وجدوا دليلا يؤكد هذه الفرضية، إذ ينحو عشاق الخيال العلمي لنيل السعادة بالابتعاد عن مشكلات الحياة، ويشمل ذلك أيضا “المهووسين” بالرسوم المتحركة اليابانية وألعاب الفيديو وما إلى ذلك.
ويستدرك الكاتب بالقول “في حين أن علم النفس قد لا يشخص المعجبين تماما على أنهم يعانون من مرض عقلي، فإن التلميح بأن كتّاب الخيال العلمي يتهربون من مواجهة خيبة الأمل في العالم الحقيقي، هو أمر قائم”، بحسب مقال له في موقع كونفيرزيشن.
قضية “كيرك ألين”
ويعود اتهام علماء النفس لكتّاب الخيال العلمي بالتهرب من واقع الحياة الحقيقية إلى الخمسينيات من القرن الماضي. ففي عام 1954، نشر المحلل النفسي روبرت ليندنر دراسته لحالة سميت “كيرك ألين” (اسم مستعار) لمريض حافظ على حياة خيالية غير عادية بنيت على الخيال العلمي.
واعتقد ألن أنه كان ذات يوم عالما على الأرض، وفي الوقت نفسه، إمبراطورا بين الكواكب. فقد كان يعتقد أنه يمكن أن يدخل حياته الأخرى عن طريق السفر عبر الزمان العقلي إلى المستقبل البعيد.
ويضيف المقال أن ليندنر شرح حالة كيرك ألن على أنها هروب من الكرب الذهني القاهر المتأصل من صدمة نفسية هائلة أثناء الطفولة، لكن ليندنر -وهو نفسه من معجبي الخيال العلمي- علق أيضا على الجاذبية المغرية لحياة ألن الثانية، بالقول إن “اختلال ألن العقلي والنفسي كان متطرفا، لكنه أظهر بوضوح شديد الشيء الذي جذب القراء إلى الخيال العلمي، ألا وهو: نمط الحياة الخيالية التي تسودها القوة والمكانة عوضا عن عيوب حيوات القراء وخيبات آمالهم الخاصة”.
إن كلمات ليندنر مهمة، إذ إنه كان معلقا ثقافيا مؤثرا، وكتب لمجلات أميركية عريقة مثل “تايم” و”هاربر”، كما نُشرت قصة كيرك ألين في مجلة هاربر.
المسافة الحرجة
ودرج علم النفس على تشخيص الخيال العلمي باعتباره أدبا للتهرب و”نافذة هروب” للمضطربين عقليا، وقد رد كتّاب الخيال العلمي مرة أخرى، وذلك بإحداث تغيير نوعي بشكل حاسم في العقود التالية.
ويستطرد كاتب المقال بقوله: على سبيل المثال تتناول رواية “الحلم الحديدي” (1972) لنورمان سبينراد، تاريخا بديلا للمواطن النمساوي أدولف هتلر الذي ولد عام 1889، وهاجر لألمانيا ليلتحق بالقوات المسلحة في الحرب العالمية الأولى، وعندما انتهت الحرب رجع للنمسا، وهاجر بعدها للولايات المتحدة عام 1919 وهناك عاش حياة مزدوجة كفنان يقدم لوحاته للمشترين على الأرصفة، ومترجم ورسام في مجلات الخيال العلمي.
وفي الرواية يتخلى هتلر عن السياسة ويصبح -بعد شهرة غير متوقعة- كاتبا ناجحا لقصص الخيال العلمي ورساما مرموقا.
وفي غضون مراجعتها “للحلم الحديدي”، كتبت مؤلفة الخيال العلمي الشهيرة أورسولا لو غوين -ابنة عالم الأنثروبولوجيا الأميركي ألفريد كرويبر- أن “الإيماءة الأساسية للخيال العلمي هي: الابتعاد و التراجع عن الواقع من أجل أن نراه بشكل أفضل، بما في ذلك رغباتنا في القيادة، أو أن نكون مقودين، وكذلك حروبنا المشروعة”.
خلال عام 1972، كانت الولايات المتحدة لا تزال تخوض حرب فيتنام. وفي العام ذاته، عرضت لو غوين نسختها “البعيدة” من الواقع الاجتماعي في كتابها بعنوان “كلمة العالم تعني الغابة”، والتي تصور محاولة استعمار كوكب غريب مأهول من قبل مجتمع الأرض الفظ المتعسكر والذي يهدف إلى غزو وانتهاك حقوق العالم الطبيعي، وهو وصف شبه مجازي لما كانت تفعله الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا آنذاك.
الخيال السياسي العربي
ويرتبط أدب الخيال العلمي عالميا بالنقد السياسي والاجتماعي، وقد تضمنت روايات جورج ويلز المبكرة -مثل “آلة الزمن”- إسقاطات سياسية معارضة للسلطة غالبا، بينما تضمنت رواية “مواقع الأفلاك في وقائع تليماك” التي ترجمها رفاعة الطهطاوي عن الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر، نقدا لاذعا للملك لويس الرابع عشر.
يلجأ كثير من الأدباء -في ظل غياب حرية التعبير والنشر في العالم العربي- إلى الخيال العلمي لتجاوز حدود الواقع وتحدي الرقابة الحكومية، عبر تصوير الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية باستعارة رمزية بالفضائيين أو الغرباء.
وسبق للروائي الإنجليزي جورج أورويل مؤلف “مزرعة الحيوان” استخدام تقنية الإسقاط الأدبي وحبكة الخيال العلمي لوصف الأنظمة الشمولية السوفياتية، واعتبرت روايته نوعا من الأدب التحذيري سواء من السلطات الاستبدادية أو الثوار الأكثر فسادا وطغيانا.
ويعِد جوناثان راينهارت نائب الرئيس الأميركي في رواية “وعد جوناثان” من سلسلة فانتازيا للروائي المصري الراحل أحمد خالد توفيق، بأن تكون بابوا غينيا الجديدة وطنا قوميا للعرب، فيما يبدو محاكاة ساخرة لوعد بلفور البريطاني.