كان استعداد المسلمين لمقدم رمضان على مرّ تاريخهم أمرا لافتا للنظر؛ فقد ارتبط شهره عندهم بالنور مبكرا حين بدأ المسلمون بإنارة المساجد والشوارع في رمضان توخيًّا للأنس بالشهر، وانطلقت العادات الرمضانية تترسخ من مراسم تحري مطالع الهلال إلى انعقاد مجالس الذكر والتعلم، وصولا إلى تمدد الموائد وتعدد مظاهر التواصل الاجتماعي، فضلا عن الألق الروحي الذي اشتهرت به حياة المسلمين في هذا الشهر القرآني.
وحتى اللحظة التي ينشر فيها هذا المقال؛ ما زال الوصل قائما بين مواطن الأنس الرمضاني قديما وحديثا، فكل مدينة عربية أو إسلامية لا تحرم نفسها من نصيبها في عادات رمضان المميزة له. وهذا المقال يحاول أن يمزج بين المأثور الديني والاجتماعي والثقافي الذي ساد شهور رمضان طوال القرون، عبر رصد واسع يحشد عددا من القصص والروايات التي يمكن من خلالها أن ننفذ إلى السلوكيات الرمضانية التي عاشها المسلمون في أقطار العالم مشرقًا ومغربًا.
مراسم التحري
يرتبط الشهر العربي بمقدم الهلال وظهور علاماته، وكذا صومُ رمضان لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الوارد في صحيحيْ البخاري ومسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ». ولهذا كان المسلمون يتحرّون رؤية هلال رمضان بصورة دقيقة وبحسب إمكانياتهم في كل بلدة وقُطر، واختاروا لذلك العدول من المسلمين الذين لا يُتهمون بالكذب والتدليس، ثم تطور الأمر مع مجيء العصر العباسي حتى أصبح القضاة من جملة الحاضرين على رأس مراسم رؤية الهلال والشهادة عليه.
فقد أخبرنا ابن خلّكان (ت 681هـ) -في ‘وفيات الأعيان‘- أن محدّث مصر عبد الله بن لهيعة الحضرمي (ت 172هـ) -الذي عينه الخليفة العباسي المنصور (158هـ) سنة 155هـ قاضيًا بمصر- كان “أول قاضٍ حضر لنظر الهلال في شهر رمضان، واستمر القُضاة عليه إلى الآن”. واستمرت تلك العادة -على الأقل- حتى أواسط القرن الثامن الهجري؛ فقد جاء الرحالة المغربي ابن بطوطة (ت 779هـ) إلى مصر عام 725هـ فشاهد المراسيم الخاصّة بظاهرة تحري هلال رمضان في مدينة أبيار شمالي مصر، حين نزل في ضيافة قاضي تلك المدينة عز الدين المليجي الشافعي (ت 793هـ).
يقول في رحلته: “حضرتُ عنده مرة ‘يوم الركبة‘ وهم يُسمون بذلك يوم ارتقاب هلال رمضان. وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي…، فإذا تكاملوا هنالك ركب القاضي وركب مَن معه أجمعين، وتبِعهم جميع مَن بالمدينة من الرجال والنساء والعبيد والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مُرتقب الهلال عندهم، وقد فُرش ذلك الموضع بالبُسط والفُرش فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب، وبين أيديهم الشمعُ والمشاعل والفوانيس، ويُوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويَصل الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون، هكذا فِعلهم كل سنة”.
على أن قُضاة بغداد مثلا كانوا يعتمدون على شهود العيان ولا يخرجون بأنفسهم لتحري الهلال كما يفعل غيرهم؛ فقد ذكر الذهبي (ت 748هـ) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه في 624هـ اعتمد قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق الجيلي البغدادي (ت 633هـ) على شهادة اثنين من أهل بغداد، وفي “ثاني ليلة رُقب الهلال فلم يُرَ، ولاح خطأ الشهود، وأفطر قومٌ من أصحاب أبي صالح [القاضي]، فأمسكوا ستّة من أعيانهم فاعترفوا، فعُزّروا بالدِّرة وحُبسوا، ثم أُخذ الذين شهدوا فحُبسوا وضُرب كل واحد خمسين”. وبسبب هذا الخطأ ثارت الجماهير على القاضي حتى “احتمى أبو صالح بالرُّصافة [ببغداد] في بيت حائكٍ، واجتمع عنده خلقٌ من باب الأزَج فمُنعوا من الدخول إليه، ثم أُطلق بعد انسلاخ شوّال”.
وقد يترافق مقدم رمضان مع ظروف جوية شديدة الغيم تحجب رؤية هلاله فتوقع الناس في إشكال وارتباك، ومن أغرب نماذج ذلك ما حكاه المقريزي (ت 845هـ) -في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- من “أن أهل مدينة غرناطة بالأندلس صاموا شهر رمضان (سنة 702هـ) ستة وعشرين يوما، وذلك أن الغيوم تراكمت عندهم عدة أشهر قبل رمضان، فلما كانت ليلة السابع والعشرين طلعوا المأذنة ليوقدوها على العادة، فإذا الغيوم قد أقلعت وظهر الهلال فأفطروا”!
وكانت بعض المواقف الطريفة تقع عند رؤية الهلال، فمن جملة ما وقع فيها ما أورده ابن خلكان من أن الصحابي الجليل أنس بن مالك (ت 93هـ) خرج مع جماعة من الناس لتحري الهلال، وكان قد بلغ من العمر مئة عام حينذاك؛ “فقال أنس: قد رأيتُه، هو ذاك! وجعل يشير إليه فلا يَرونه، ونظر إياس (بن معاوية المزني قاضي البصرة المتوفى 122هـ) إلى أنس وإذا شعرة من حاجبه قد انثنَت [على عينه فظنها من أمارات الهلال]، فمسحها إياس وسوّاها بحاجبه، ثم قال له: يا أبا حمزة، أرنا موضع الهلال! فجعل ينظرُ ويقول ما أراهُ”! وروى أيضا أن رجلا حادّ البصر رأى هلال رمضان في البصرة حتى “رآه معه غيره وعاينوه، فلما كان هلال الفطر جاز الجمّاز (= محمد بن عمرو البصري المتوفى 250هـ) صاحب النوادر (= الطرائف) إلى ذلك الرجل، فدّق عليه الباب فقال: قُم أخرجنا مما أدخلتنا فيه”!!
منذ حقبة مبكرة من التاريخ الإسلامي صارت عملية تحري رؤية الهلال تجري وفق رقابة رسمية
زينة وتجمّل
وكان من عادة الناس في استقبال الشهر الكريم تزيين بيوتهم ومدنهم والتجمّل الزائد له؛ فالرحالة المقدسي البشاري (ت نحو 380هـ) يخبرنا -في ‘أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم‘- أن أهل عدن باليمن “يزيّنون السطوح قبل رمضان بيومين، ويضربون عليها الدبادب (= الطبول)؛ فإذا دخل رمضان اجتمع رُفُقٌ (= جماعات) يدورون عند السحر يقرؤون القصائد إلى آخر الليل”.
ويفيدنا نص البشاري هذا بأن الاحتفاء بمقدم الشهر الكريم وصل إلى حد ضرب الطبول، ثم تطور ذلك -في القرون الأخيرة مع العثمانيين- إلى ما أصبح يُسمى “مدفع رمضان” الذي تُضرب طلقاته عند وقت الإفطار. ويبدو أنه كان يطلق أيضا في أوقات السحور؛ فشهاب الدين الحلاق البديري (ت بعد 1175هـ) يخبرنا -في كتابه ‘حوادث دمشق اليومية‘ أنه في سنة 1155هـ “كان هلال رمضان.. وأشعلِت القناديل في سائر مآذن الشام، وضُربت ‘مدافع الإثبات‘ في منتصف الليل، وحصل للناس زحمة في حركة السحور، حتى فُتحت دكاكين الطعام ليلا كالخبازين والسمانين”.
وكانت أهم تلك العادات تزيين وإنارة المساجد والجوامع؛ فقد ذكر ابن عساكر (ت 571هـ) -في ‘تاريخ دمشق‘- أن عمر رضي الله عنه كان أول من أنار المساجد للقناديل في الإسلام، فقد “مرّ علي بن أبي طالب على المساجد في شهر رمضان وفيها القناديل، فقال: نوّر اللهُ على عُمر في قبره كما نوّر علينا مساجدنا”. كما جرت العادة بتطييب المسجد النبوي وتبخيره؛ يقول ابن سعد (ت 230هـ) في ‘الطبقات الكبرى‘: “إن الولاة قبل عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) كانوا يجرون على إجمار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للجُمع وتطييبه في شهر رمضان من العُشر والصدقة”، إلا أن عمر بن عبد العزيز قرر قطع هذه العادة توفيرًا لأموال المسلمين.
ومنذ أيام الصحابة؛ ارتبط رمضان أيضا بالموعد السنوي لتغيير كساء الكعبة المشرفة، فكانت العادة -كما يقول الأزرقي (ت 250هـ) في ‘أخبار مكة‘- أن “تُكسى الكعبة القَباطي في آخر شهر رمضان”، منذ زمن معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ)، و”القباطي” نوع من الثياب كان يُحاك في مصر منذ عصر الخليفة الفاروق.
وحرص الخلفاء والولاة على عادة تزيين المساجد وزيادة أنوارها وشموعها وطيبها في رمضان؛ إذ أمر الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ) في مستهل رمضان كاتبه أحمد بن يوسف أن يكتب على لسانه رسالة إلى ولاته وعُماله في الأقاليم. يقول ابن يوسف فيما يحكيه عنه ابن طيفور (ت 280هـ) في ‘كتاب بغداد‘: “أمرني المأمون أن أكتب لجميع العمال في أخذ الناس بالاستكثار من المصابيح في شهر رمضان، وتعريفهم ما في ذلك من الفضل، فما دريت ما أكتب ولا ما أقول في ذلك؛ إذ لم يسبقني إليه أحد فأسلكُ طريقه ومذهبه…، فأتاني آتٍ فقال: قل: فإن في ذلك أُنسًا للسائلة، وإضاءة للمجتهدين، ونفيًا لمظان الريب، وتنزيها لبيوت الله من وحشة الظّلمة. فكتبت هذا الكلام وغيره مما هو في معناه”. وفي ‘زهر الآداب‘ للحُصْري القيرواني (ت 453هـ) أنه كتب: “فإنها إضاءة للمتهجدين..، وأنْسا للسابلة..، فأخبرت بذلك المأمون فاستظرفه، وأمر أن تُمضى الكتب عليه”.
الإفطارات الجماعية في المساجد بدأ العمل بها في عهد الخلفاء الراشدين
قناديل وطبول
أما وزير الأندلس الأشهر ومدبر أمرها للأمويين المنصور بن أبي عامر (ت 392هـ) فكانت عادته الاهتمام بجامع قرطبة الكبير في رمضان، فكان يرسل إليه كما يقول ابن عذاري (ت نحو 695هـ) في ‘البيان المُغرب‘: “من الكتَّان للفتائل في كُل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار؛ وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمئة ربع أو نحوها؛ يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد. ومما كان يختص برمضان المعظم ثلاثة قناطير من الشمع، وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقصر لإقامة الشمع المذكور؛ والكبيرة من الشمع تُوقد بجانب الإمام؛ يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلا (من 22 إلى 32 كغ)، يحترق بعضها بطُول الشهر، ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة”.
كما حرص الفاطميون على إضاءة الجوامع الكبيرة في القاهرة -مثل الأزهر والمسجد الحاكمي وجامع راشدة- لا سيما في رمضان المبارك، حتى إن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (ت بعد 411هـ) كان مما جاء في وقفيته على الأزهر التي حفظ لنا مضمونها المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘: “فللجامع الأزهر تَنّوران وسبعة وعشرون قنديلاً، ومنها لجامع راشدة تنور واثنا عشر قنديلا، وشرط أن تُعلق في شهر رمضان وتُعاد إلى مكان جرت عادتها أن تُحفظ به”.
وتأتي عادة الفاطميين في إنارة الجوامع في رمضان ضمن تقليدهم السنوي الذي يسميه المقريزي -في ‘الخطط‘- “كشف المساجد” الذي ينفذ قُبيل دخول رمضان، ووصفه ابن حجر (ت 852هـ) -في ‘رفع الإصر‘ بأنه “يوم طواف المساجد والجوامع قبل رمضان بيومين”. وكان هذا التقليد يشهد احتفاء شعبيا به لكونه يختتم بوليمة فاخرة؛ فقد قال إن “القضاة بمصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام، طافوا يوما على المشاهد والمساجد بالقاهرة ومصر، فيبدؤون بجامع المقس، ثم بجوامع القاهرة…، لنظر حُصُر ذلك، وقناديله، وعمارته، وإزالة شعثه. وكان أكثر الناس ممن يلوذ بباب الحكم والشهود، والطفيليون يتعينون لذلك اليوم والطواف مع القاضي لحضور السماط”.
وقد أضحت عادة تجديد صيانة المساجد وتعميرها وإمدادها بكل ما تحتاجه في رمضان من العادات اللازمة الجارية في أقطار الإسلام المختلفة، حتى إن الرحالة الأندلسي الشهير ابن جبير البلنسي (ت 582هـ) يقول -في رحلته- عن مظاهر ذلك في المسجد الحرام: “ووقع الاحتفالُ في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك، وحق ذلك مِن تجديد الحُصر، وتكثير الشمع والمشاعيل، وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نورًا، وسطع ضياءً”.
وتواصلت تلك العادة حتى رصدها لاحقا ابن بطوطة -في رحلته- بقوله: “إذا أهلَّ هلال رمضان تُضرب الطبول والدّبادب عند أمير مكة، ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام مِن تجديد الحُصر، وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرام نورًا، ويسطع بهجة وإشراقا، وتتفرق الأئمة فرقا، وهم الشافعية والحنفية والحنبلية والزيدية، وأما المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء: يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع، ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يُصلي بجماعته، فيرتجّ المسجد لأصوات القراء، وترقّ النفوس، وتحضر القلوب، وتهْمِل (= تدمع) الأعين”.
كثير من العلماء كانوا يوقفون أنشطة التدريس مفضلين التفرغ للصلاة والتلاوة طوال شهر رمضان
تلاوة وتفرّغ
ولئن تنافس الخلفاء والولاة في تزيين وإضاءة الجوامع وتهيئتها للقائمين والراكعين؛ فقد تسابقت الأمة جيلاً بعد جيل في عمل الطاعات والصالحات لاسيما في رمضان استنانا بفعل النبي (ص) والصحابة، وعلى رأس ذلك قراءة القرآن الكريم. فقد نقل أبو عثمان الجوزجاني (ت 227هـ) -في كتابه ‘التفسير من سنن سعيد بن منصور‘- عن التابعي الأسود بن يزيد النخعي (ت 75هـ) أنه كان “يختم القرآن في شهر رمضان في كل ليلتين، وينام فيما بين المغرب والعشاء”، ثم يستكمل برنامجه اليومي الحافل بأعمال الخير والبر.
وفي رحلة ابن بطوطة أنه جرت العادة في مكة المكرمة بأنه “في كل ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء، ويكون الذي يختم بهم أحد أبناء كبراء أهل مكة فاذا ختم نُصب له منبر مُزيَّن بالحرير، وأوقد الشمع وخطب، فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات، وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر، وأعظم تلك الليالي عندهم ليلة سبع وعشرين، واحتفالهم لها أعظم من احتفالهم لسائر الليالي، ويُختم بها القرآن العظيم خلف المقام الكريم”.
وكثير من هؤلاء السلف والعلماء الكبار كانت لهم في رمضان أحوال خاصة، وبعضهم كان يترك كل شيء متفرغًا لهذا الشهر الفضيل؛ مثلما أورده ابن عساكر (ت 571هـ) -في ‘تاريخ دمشق‘- قال: “كان الحنيني إذا دخل شهر رمضان ترك سماع الحديث، فقال له مالك (بن أنس إمام المالكية المتوفى 179هـ): يا أبا يعقوب، لمَ تترك سماع الحديث في رمضان؟ إن كان فيه شيء يُكرَه فهو في غير رمضان يكره. فقال له الحنيني: يا أبا عبد الله، شهر أُحب أن أتفرغ [فيه] لنفسي”.
وجاء في كتاب ‘ربيع الأبرار‘ للزمخشري (ت 538هـ): “كان سفيان الثوري (ت 161هـ) إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن”. ويروي الحافظ ابن كثير (ت 774هـ) -في ‘البداية والنهاية‘- أن الإمام اللغوي أبو عمرو بن العلاء التميمي البصري (ت 157هـ) “كان إذا دخل شهر رمضان لا ينشد فيه بيتا من الشعر حتى ينسلخ”.
ويقول المقريزي -في ‘المواعظ‘- إنه في مصر الفاطميين “كانت العادة جارية من الأيام الأفضلية (= نسبة إلى الوزير الأفضل الجمالي المتوفى 515هـ) في آخر جمادى الآخرة من كل سنة: أن تُغلق جميع قاعات الخم~ارين بالقاهرة ومصر وتُختم، ويحذّر من بيع الخمر” حتى ينقضي رمضان! كما يذكر حرصهم على زيادة رواتب القرّاء والمؤذنين في نهاية هذا الشهر الكريم، فإذا “كان في التاسع والعشرين من شهر رمضان خرجت الأوامر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئين والمؤذنين في كل ليلة برسم السحور بحكم أنها ليلة ختم الشهر”.
وكان من عادة المحد~ث العلامة سويد بن عمرو الكوفي (ت 204هـ) أنه “لا يُحدِّث في رمضان، فقيل له، فقال: لعلَّنا نسلمُ منكم، لا نذكر أحدًا في رمضان”؛ حسب جمال الدين المزي (ت 742هـ) في ‘تهذيب الكمال‘. وعلى الدرب نفسه سار قاضي الأندلس أبي بكر ابن زَرْبٍ الأندلسي (ت 381هـ)؛ يقول عنه النبّاهي (ت 792هـ) -في ‘تاريخ قضاة الأندلس‘- إنه “كان لا يحكم في شهر رمضان ويُفرّغ فيه نفسه للعمل والعبادة، لم يزل مواظبًا على ذلك إلى أن مات”.
وبعض هؤلاء العلماء كان يتفرّغ لكتابة المصاحف، مثل محمد ابن العديم الحنفي الحلبي (ت 626هـ) -وهو عم الوزير والمؤرخ كمال الدين ابن العديم (ت 660هـ)- الذي يقول عنه المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ) في ‘الوافي بالوفيات‘: “كان يكتبُ في رمضان -إذا اعتكف- مُصحفًا أو مُصحفين”!!
حصن المنستير بشمالي تونس كان منذ الفتح الإسلامي رباطا للعلماء طوال رمضان
رباط وجهاد
وكان بعض كبار علماء تونس يحب أن يقضي شهر رمضان مرابطًا في الثغور أمام العدو، مثل الإمام المالكي سحنون التنوخي (ت 240هـ) وصديقه العالم موسى بن معاوية الصُّمادحي (ت 225هـ). وفي ذلك يقول سحنون حسبما يرويه عنه أبو العرب التميمي (ت 333هـ) في ‘طبقات علماء أفريقية‘: “كُنّا نُرابط بالمُنستير (= حصن دفاعي شمالي تونس على ساحل البحر المتوسط) في شهر رمضان ومعنا جماعة من أصحابنا، فكان موسى بن معاوية أطولهم كلّهم صلاة وأدومهم عليها، فإذا كانت ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان طبَّقها من أولها إلى آخرها”.
ويأتي على رأس هؤلاء العلماء المرابطين الإمامُ العلامة المجاهد عبد الله بن المبارك (ت 181هـ)، الذي اشتُهر باشتراكه الدائم في معارك العباسيين وجهادهم ضد البيزنطيين، ومكوثه فترات طويلة مرابطًا أمام العدو في ثغور الشام الشمالية، حتى إنه “مات منصرفا من طَرَسوس (تقع جنوبي تركيا اليوم) في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومئة”؛ حسب الدارمي في ‘مشاهير علماء الأمصار‘.
وكانت مدينة طَرَسوس هذه ثغرا خطيرا ورباطا عظيما للجهاد مع البيزنطيين حتى استولوا عليها سنة 354هـ. ومثل ابن المبارك في ذلك؛ المحدث العراقي الحسين البيروذي الأهوازي (ت 261هـ) الذي قال عنه الخطيب البغدادي (ت 463هـ) -في ‘تاريخ بغداد‘- إنه “مات في النفير بمَلَطْيَة (وسط تركيا اليوم) في شهر رمضان سنة إحدى وستين ومئتين”.
وبرزت هذه الظاهرة عند علماء الأندلس أيضًا؛ فابن الفرضي (ت 403هـ) يقول -في ‘تاريخ علماء الأندلس‘- إن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان (ت 370هـ) -وهو أحد كبار علماء وقضاة الأندلس الأموية، وكان يتولى وظيفة “صاحب الرد” في قرطبة، وهي منصب قضائي جليل يشبه راسة “محكمة التمييز/ النقض” في عصرنا- كانت “وفاته بكركي (= حصن شمالي الأندلس) في غزاة الصائفة (= الصيف)، وذلك في صدر شهر رمضان سنة سبعين وثلاثمئة”.
والتماسا للأجر المضاعف الذي قرنه النبي (ص) برمضان حين قال إن «عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً» (صحيح البخاري)؛ كان عدد من كبار علماء وقرّاء مكة المكرمة يحرصون سنويا على أداء عمرة رمضان. فقد حكى محمد بن إسحق الفاكهي (ت 272هـ) -في ‘أخبار مكة‘- أن عبد الله ابن خُثيم (ت 132هـ) قال: “أدركتُ عطاءً (ت 114هـ) ومُجاهدًا (ت 104هـ) وعبد الله بن كثير الدّاري (ت 120هـ) وأُناسًا من القراء إذا كان ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان خرجوا إلى التنعيم فاعتمروا من خيمتيْ جُمانة، من حيث اعتمرت عائشة (ت 58هـ) رضي الله عنها”. ويقول الصفدي -في ‘نكث الهميان في نكت العميان‘- إن الفقيه الضرير محمد البندنيجي الشافعي (ت 495هـ) “يعتمرُ في شهر رمضان ثلاثين عُمرة”!
طبقة الفقراء كانت تعيش أفضل أيامها خلال رمضان لما يشهده من أوجه الإنفاق والصدقة
إطعام وإنفاق
أما عادة الإقبال على الإنفاق في أوجه الخير خلال رمضان، وصنع الطعام للمحتاجين تصدقًا وبرّا بهم؛ فهي تقليد إسلامي قديم يعود إلى عصر الخلفاء الراشدين بعد أن أخذه الصحابة عن النبي (ص) حين وصفوا كرمه في هذا الشهر الفضيل، فقالوا إنه كان «أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ»؛ (صحيح مسلم). بل إن ابن الأثير (ت 630هـ) -في تاريخه ‘الكامل‘- يرجع هذه العادة إلى العصر الجاهلي، حيث قال إن عبد المطلب بن هاشم (جد النبي ص) هو “أول من تحنّث بحراء، فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر”.
وعن عمل الصحابة في هذا المجال؛ جاء في تاريخ الطبري (ت 310هـ): “كان عمر يجعلُ لكل نفس من أهل الفيء في رمضان درهمًا في كل يومٍ، وفرضَ لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم درهمين درهمين، فقيل له: لو صنعتَ طعامًا فجمعتهم عليه! فقال: أُشبعُ الناس في بيوتهم. فأقرّ عثمان الذي كان صنع عمر وزاد فوضع طعام رمضان، فقال: للمتعبّد الذي يتخلّف في المسجد وابن السبيل والمعترّين بالناس في رمضان”.
وقد خُصص للصائمين شراب عند فطرهم في المسجد النبوي الشريف، إذ روى ابن سعد -في ‘الطبقات الكبرى‘- عن التابعي عمران بن عبد الله الخُزاعي (ت بعد 93هـ) أنه “كان في رمضان يُؤتى بالأشربة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم”.
وسار الأمويون على درب الخلفاء الراشدين في عادة إطعام الصائمين، فالأزرقي يفيدنا -في ‘أخبار مكة‘- بأن مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) اشترى -من آل المؤمل العدويين- دارًا في مكة المكرمة وسماها “دار المراجل” أي قدور الطعام؛ “لأنها كانت فيها قُدور من صُفْر (= نُحاس) يُطبخُ فيها طعام الحاجّ (= الحُجّاج) وطعام شهر رمضان” الذي يفرق على الفقراء والمعتمرين وغيرهم من الصائمين.
ودأب بعضُ الأمراء على الإكثار من الإنفاق والتصدق على الرعية في شهر رمضان، مثل أمير تونس العادل أحمد بن محمـد بن الأغلب (ت 249هـ) الذي كان من عادته -حسب ابن عذاري في ‘البيان المُغرب‘- أن يركب كل ليلة في رمضان “وبين يديه الشمع فيخرج من القصر القديم ويمشي حتى يدخل من باب أبي الربيع ومعه دوابّ [محمّلة] بالدراهم، فكان يعطي الضعفاء والمساكين حتى ينتهي إلى المسجد الجامع بالقيروان فيخرج الناس إليه يدعون له”.
وفي ‘تاريخ دمشق‘ لابن عساكر أن أمير دمشق والأردن للعباسيين مالك بن طوق (ت 260هـ) كان “من الأسخياء المشهورين”؛ فكان “إذا جاء شهر رمضان نادى منادي مالك بن طوق بدمشق كل يوم على باب ‘الخضراء‘ -بعد صلاة المغرب- وكانت دارُ الإمارة في ‘الخضراء‘ في ذلك الزمان: الإفطار رحمكم الله، الإفطار رحمكم الله؛ والأبواب مفتحة فكل من شاء دخل بلا إذن، وكان لا يمنع أحدًا من ذلك”.
ولقد ساهم أهل الخير واليسار وصغار الأمراء والوزراء في إطعام الصائمين؛ فهذا حماد بن أبي سليمان الكوفي (ت 120هـ) -وهو شيخ الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 499هـ)- كان “يُفطّر كل ليلة في شهر رمضان خمسمئة إنسان، فإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوبًا ثوبًا، وأعطاهم مئة مئة”؛ طبقا لما أورده الشجري الجرجاني (ت 499هـ) في ‘ترتيب الأمالي الخميسية‘.
ويحدث أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ) -في ‘يتيمة الدهر‘- عن أن الوزير البويهي الصاحب ابن عبّاد (ت 385هـ) كان “لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد -كائنا من كان- فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها، وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يُطْلق (= يُنفق) منها في جميع شهور السنة”.
كثير من سلاطين ووزراء وتجار المسلمين اشتهروا بتنافسهم في أعمال البر خلال رمضان
حفاوة فاطمية
وسار بعض قضاة وعلماء الأندلس على الدرب ذاته، مثل قاضي مالقة محمد بن الحسن النُّباهي (ت 463هـ) الذي يقول عنه أبو الحسن النُّباهي (ت 793هـ) في ‘تاريخ قضاة الأندلس‘: “كان في كل رمضان يحذو حذو صهره القاضي بقرطبة أحمد بن زياد، فيدعو بدار له تُجاور المسجد عشرةً من الفقهاء في طائفة من وجوه الناس، يفطرون كل ليلة عنده، ويتدارسون كتاب الله بينهم ويتلونه”.
واستمر جريان هذه العادة الحميدة حتى إن ابن الأثير يقول -في تاريخه- إن الخليفة الناصر لدين الله العباسي (ت 622هـ) أمر في شهر رمضان “ببناء دُور في المحالِّ (= الأحياء) ببغداد ليُفطر فيها الفُقراء، وسُميت ‘دُور الضيافة‘، يُطبخُ فيها اللحم الضأن، والخُبز الجيد، عمل ذلك في جانبيْ بغداد (= الرصافة والكرخ)، وجعل في كلّ دارٍ من يُوثقُ بأمانته، وكان يُعطي كلّ إنسانٍ قدَحًا مملوءًا من الطبيخ واللحم، ومنًّا (‘المَنُّ‘ كيلٌ قديم يساوي 40 غراما تقريبا) من الخُبز، فكان يُفطرُ كلَّ ليلةٍ على طعامه خلقٌ لا يُحصون كثرة”.
وكذلك فعل بعده حفيدُه الخليفة المستنصر (ت 640هـ)؛ فقد قال ابن شمائل البغدادي الحنبلي (ت 739هـ) -في ‘مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع‘- إنه كانت له أوقاف “على ‘آدُرِ المضيف‘ (= دُور الضيافة) التي أنشأها في محالّ بغداد لفطور الفقراء في شهر رمضان”.
ولئن دعا الراشدون والأمويون والعباسيون الناسَ إلى طعامهم وشرابهم؛ فقد كانت عادة الفاطميين العُبيديين تفريق الطعام على طبقات الناس في القاهرة من المطابخ المخصصة التي أنشؤوها لذلك.
وقد بدأت هذه العادة منذ عصر المعز لدين الله الفاطمي (ت 365هـ)؛ يقول المقريزي -في ‘المواعظ‘- نقلا عن المؤرخ ابن أبي طي (ت 630هـ): “عمِل المعز لدين الله دارا سماها: ‘دار الفَطرة‘، فكان يعمل فيها من الخشكنانج (= خبز يُعمل بالزبد والسكر واللوز)، والحلواء… والكعك والتمر والبندق شيء كثير، من أوّل رجب إلى نصف رمضان، فيفرّق جميع ذلك في جميع الناس الخاص والعام على قدر منازلهم في أوانٍ لا تُستعاد”.
ويحدثنا المقريزي أيضا عن صنائع القائد العسكري الفاطمي ثم الأيوبي لؤلؤ الحاجب الأرمني (ت 598هـ) قبل رمضان وفيه؛ فيقول إنه “كان يفرق في كل يوم اثني عشر ألف رغيف مع قُدور الطعام، وإذا دخل شهر رمضان أضعف ذلك، وتبتل للتفرقة من الظهر في كل يوم إلى نحو صلاة العشاء الآخرة، ويضع ثلاثة مراكب طول كل مركب أحد وعشرون ذراعا مملوءة طعاما، ويدخل الفقراء أفواجا وهو قائم مشدود الوسط كأنه راعي غنم، وفي يده مغرفة وفي الأخرى جَرّة سمن، وهو يصلح صفوف الفقراء ويقرب إليهم الطعام والودك، ويبدأ بالرجال ثم النساء ثم الصبيان، وكان الفقراء -مع كثرتهم- لا يزدحمون لعلمهم أن المعروف يعمّهم، فإذا انتهت حاجة الفقراء بسط سماطا للأغنياء تعجز الملوك عن مثله”!
وقد لفت نظرَ ابن بطوطة بعض عادات أهل دمشق في شهر رمضان، لا سيما في تشاركهم الطعام؛ حيث يقول: “ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يُفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة؛ فمَن كان من الأمراء والقضاة والكبراء فإنه يدعو أصحابه والفقراء يُفطرون عنده، ومَن كان من التجار وكبار السُّوقة صنع مثل ذلك، ومَن كان من الضعفاء والبادية فإنهم يجتمعون كلّ ليلة في دار أحدهم أو في مسجد، ويأتي كل أحد بما عنده فيفطرون جميعا”.
وفي مصر؛ يخبرنا المقريزي كذلك -في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- أن السلطان الظاهر برقوق (ت 801هـ) اعتاد “طوال أيام إمارته وسلطنته في كل يوم من أيام شهر رمضان [ذبح] خمسة وعشرين بقرة، يتصدّق بها -بعدما تُطبخ ومعها آلاف من أرغفة الخبز النقي- على أهل الجوامع والمشاهد والخوانك والرُّبُط وأهل السجون؛ لكل إنسان رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة من نقيّ البُرّ (= القمح)، سوى ما كان يُفرّق في الزوايا [للصوفية] من لحم الضأن، فيُعطي في كل يوم لكل زاوية خمسون رطلاً وعدة أرغفة خبز، وفيهم من يُعطى أكثر من ذلك بحسب حالهم”.
مصر الفاطمية والأيوبية والمملوكية كانت مركزا لكثير من العادات الشعبية والرسمية التي ميزت رمضان
عمارة وأوقاف
وقد حرص كثير من الخلفاء والملوك والسلاطين على رفع المظالم وإقامة العدل، والتيسير على الناس في رمضان، والسير على درب من سبقوهم في الإنشاء والتعمير لمؤسسات البِرّ في هذا الشهر المبارك. فقد ذكر المؤرخ ابن طيفور -في ‘كتاب بغداد‘- أن الخليفة العباسي المأمون رُفعت إليه شكوى “في شهر رمضان أن التُّجار يعتدون على ضعفاء الناس في الكيل، فأمر بقفيزٍ (= مكيال) يسعُ ثمان مكاكيك (= جمع مَكُّوكٍ: مكيال قديم لأهل العراق) مُرسل، وصيّر في وسطه عمودًا وسُمي الملجم، وأمر التّجار [أن] يُعيّروا (= يضبطوا) مكاكيكهم عليها صغارها وكبارها، ففعلوا ذلك ورضي الناس”.
ومن القصص الدالة هنا ما يحكيه المقريزي -في ‘المواعظ‘- من أن أمير مصر أحمد بن طولون (ت 270هـ) رأى “الصنّاع يبنون في الجامع (= جامعه الشهير في مصر) عند العشاء، وكان في شهر رمضان فقال: متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارا لعيالهم وأولادهم، اصرفوهم العصر. فصارت سُنّة إلى اليوم (= عصر المقريزي في القرن التاسع الهجري) بمصر. فلما فرغ شهر رمضان، قيل له: قد انقضى شهر رمضان فيعودون إلى رسمهم؛ فقال: قد بلغني دعاؤهم، وقد تبرّكت به، وليس هذا مما يوفِّر العمل علينا. وفرغ منه (= الجامع) في شهر رمضان سنة خمس وستين ومئتين”.
ومن المعروف أن أقدم جامعة أنشئت في العالم الإسلامي كانت ‘مسجد القرويين‘ الشهير في فاس بالمغرب، والذي بُني من حُرّ مال المرأة الصالحة فاطمة بنت محمد الفِهري (ت نحو 265هـ)، وقد أمرت بأن تكون بداية تأسيسه في رمضان رغبة في مضاعفة الأجر.
وفي ذلك؛ يقول المؤرخ ابن أبي زرع (ت 726هـ) -فيما يعزوه إليه أبو العباس الناصري (ت 1315هـ) في ‘الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى‘- إن فاطمة هذه “مات زوجها وإخوتها فورثت منهم مالاً جسيمًا، وكان من حلال، فأرادت أن تنفقه في وجوه الخير، وكانت لها نيّة صالحة، فعزمت على بناء مسجد تجد ثوابه عند الله، فاشترت البقعة من ربّها، وشرعت في حفر أساس المسجد وبناء جدرانه، وذلك يوم السبت فاتح رمضان المعظم سنة خمس وأربعين ومئتين”.
ولقد سار السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ) على درب هؤلاء، فكان آية في النشاط والعمل طوال العام وفي رمضان أيضًا؛ ففي عام 588هـ رحل “إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد أحواله وأمر بتشييد أسواره، وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس”؛ وفقا لرواية ابن فضل الله العمري في ‘المسالك‘.
كما بنى الأمير المملوكي سيف الدين صُرْغَتمُش الناصري (ت 759هـ) مدرسته التي لا تزال شاهدًا على الإتقان والإبداع في العمارة المملوكية بالقاهرة؛ يقول المقريزي في ‘المواعظ‘: “وابتدأ في بناء المدرسة يوم الخميس من شهر رمضان سنة ست وخمسين وسبعمئة، وانتهت في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، وقد جاءت من أبدع المباني وأجلّها وأحسنها قالبا وأبهجها منظرا”.
أغلبية العلماء كانت تفضل مواصلة أنشطة التدريس في رمضان على التفرغ لغيرها من العبادات
دروس ومناظرات
ولئن انشغل العلماء والفقهاء بأعمالهم وعبادتهم وتنافسوا فيها خلال رمضان؛ فقد تنوعت مجالس الأمراء فيه فكان بعضهم يحب قضاء يومه الرمضاني في سماع قصص الأولين وأخبارهم الغريبة والمستطرفة من الأخباريين والمؤرخين، فقد “كان أمراء بني الأغلب [في تونس] يرسلون إلى إسحق (بن عبد الملك المشلوني أحد العارفين بأخبار الأولين) فيكون عندهم في رمضان، فيُحدّثهم بتلك العجائب حتى يقطع بهم طول النهار”؛ حسب تعبير أبي العرب التميمي في طبقاته.
ويذكر المقريزي -في ‘الخطط‘- أن خليفة الفاطميين كان يجلس بعد انتهاء الآكلين من “أسمطة رمضان.. في الروشن (= شرفة القصر) إلى وقت السحور، والمقرئون تحته يتلون عشرا، ويطربون بحيث يشاهدهم الخليفة، ثم [إذا انتهوا] حضر بعدهم المؤذنون، وأخذوا في التكبير وذِكْر فضائل السحور، وختموا بالدعاء، وقُدِّمت المخادُّ للوعاظ فذكروا فضائل الشهر”.
وقد دأب سلاطين المماليك وأمراؤهم في مصر والشام على إقامة مجالس الحديث النبوي الشريف في رمضان، ولعل بداية ذلك كانت على يد السلطان الأشرف شعبان (ت 775هـ) كما قد يُفهم من قول المقريزي في ‘السلوك‘: “وفيه (= رمضان سنة 774هـ) استجدّ السلطان [الأشرف شعبان] عنده بالقصر -من قلعة الجبل- قراءة كتاب صحيح البخاري في كل يوم من أيام شهر رمضان، بحضرة جماعة القضاة ومشايخ العلم؛ تبرّكًا بقراءته”.
ويقول الرحالة المقدسي إن ملوك السامانيين في خراسان كان من عادتهم في ليالي رمضان عقد “مجالس… للمُناظرة بين يدي السلطان، فيبدأ هو فيسأل مسألة ثم يتكلّمون عليها”. كما ينقل الثعالبي -في ‘يتيمة الدهر‘- عن الوزير البويهي الصاحب ابن عبّاد أنه قال: “حضرت مجلس ابن العميد (ت 360هـ) عشية من عشايا شهر رمضان وقد حضره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة، وأنا إذ ذاك في ريعان شبابي”.
ومثلهم في ذلك سلاطين المماليك الغورية في الهند، فقد اعتاد السلطان محمد بن تغلق شاه (ت 752هـ) مسامرةَ العلماء في هذا الشهر، يقول عنه العُمري في ‘مسالك الأبصار‘: “والعلماء تحضرُ مجلسه، وتُفطر في شهر رمضان عنده، ويأمر صدر جهان كل ليلة واحدًا ممن يحضر بأن يذكر نُكتة (= قضية علمية أو أدبية)؛ ثم تتجاذب الجماعة أطراف البحث فيها بحضرة السلطان، وهو كواحدٍ منهم، يتكلم معهم، ويبحث بينهم، ويردّ عليه”.
واللافت أننا نجد مجالس للمحدّثات والشيخات العالمات كانت مفتوحة للطلبة في هذا الشهر الكريم؛ إذ يُخبرنا المحدّث والمؤرخ علم الدين البِرزالي (ت 739هـ) أنه سمع الحديث من شيخته أسماء بنت محمـد الدمشقية (ت 733هـ). وفي ذلك يقول الصفدي -في ‘أعيان العصر وأعوان النصر‘- نقلا عن البرزالي: “قرأتُ عليها مجلس شهر رمضان في رمضان سنة ثلاث وثمانين [وستمئة]، وقرأتُ عليها قبل موتها بأربعة أيام. فبين التاريخين أكثر من خمسين سنة. وكانت امرأة مُباركة متيقظة، كثيرة البر والصدقة والمعروف”.
جلسات الأدب والمناظرة الليلية من أكثر ما ميز رمضان في حياة الأمراء والوزراء
وعظ وأدب
كما كانت حلقات العلم والتدريس والتأليف والوعظ على حالها من النشاط والتوقد في هذا الشهر الفضيل؛ فقد كان عبد الله بن عباس (ت 68هـ) يصوم ويُفطر في مدينة البصرة في بعض السنين، وكان من عادته أن يقوم في الناس خطيبًا يُلقي فيهم كلمة موجزة بعد صلاة العشاء، فقال لهم ليلة فيما أورده الحافظ ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘: “مِلاك أمركم الدين، ووصْلتكم الوفاء، وزينتكم العلم، وسلامتكم الحِلم، وطولكم المعروف؛ إن الله كلفكم الوسع، اتقوا الله ما استطعتم”. ثم سأله أحد الحاضرين عن أشعر الناس في زمنهم، فاسترسل ابن عباس في الحديث معهم حول الشعر والشعراء.
ويبدو أن عادة تناول الشعر والأدب في الجوامع في ليالي رمضان ظلت باقية على مرّ الزمان؛ إذ حكى المؤرخ والأديب المصري جمال الدين بن ظافر (ت 613هـ) أنهم اجتمعوا “ليلة من ليالي رمضان بالجامع، وجلسنا بعد انقضاء الصلاة للحديث، وقد وُقد فانوس السحور، فاقترح بعض الحضور على الأديب أبي الحجاج يوسف بن علي بن الرقاب -المنبوز بـ‘النعجة‘- أن يصنع قطعة في فانوس السحور، وإنما طُلب بذلك إظهار عجزه، فصنع من [بحر] الطويل:
وَنجم من الفانوس يشرق ضـوؤه ** وَلكـــــــنه دون الْكَوَاكِب لَا يسري
وَلم أر نجماً قطّ قبل طـــــــلوعه ** إِذا غَار يُـنْهَى الصائمين عَن الفِطر
فانتدبت لَهُ من بَين الْجَمَاعَة وَقلت لَهُ: هَذَا التَّعَجُّب لَا يَصح لِأَنِّي والحاضرين قد رَأينَا نجومًا لَا تدخل تَحت الْحصْر وَلَا تُحصى بِالْعدَدِ إِذا غارت نُهي الصائمون عَن الْفطر وَهِي نُجُوم الصَّباح. فأسرف الجماعَة بعد ذلك في تقريعة وَأخذُوا فِي تمزيق عِرضه وتقطيعه، فَصنعَ أيضا من [بحر] البسِيط:
هَذَا لِوَاء سحور يُستضاء بِهِ ** وعسكر الشُّهب فِي الظلماء جرار”.
وكان أمراء دولة الأراتقة التركمان -في ديار بكر وماردين ومناطق شمال الموصل- يحبون سماع الأدب، وقراءة الأشعار بعد إفطارهم؛ فابن شاكر الكتبي (ت 764هـ) يروي -في ‘فوات الوفيات‘- عن الشيخ الواعظ ناشب بن هلال الحرّاني (ت 591هـ) قوله: “قصدتُ ديار بكر مكتسباً بالوعظ، فلما نزلتُ قلعة ماردين دعاني صاحبها تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق للإفطار عنده في شهر رمضان، فحضرت عنده فلم يرفع مجلسي ولا أكرمني، وقال بعد الإفطار لغلام عنده: آتنا بكتاب، فجاء به، فقال: ادفعه إلى الشيخ ليقرأ فيه، فازداد غيظي لذلك وفتحت الكتاب وإذا هو ديوان امرئ القيس (ت 540م)، وإذا في أوله:
ألا عم صباحًا أيها الطَّلل البالي ** وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فقلتُ في نفسي: أنا ضيف وغريب وأستفتح ما أقرأه على سلطان كبير وقد مضى هزيع من الليل:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي!!…، فقلتُ [على البديهة]:
ألا عم مساءً أيها الملكُ العالي ** ولا زلتَ في عزّ يدومُ وإقبالِ
ثم أتممتُ القصيدة، فتهلّل وجه السلطان لذلك ورفع مجلسي وأدناني إليه، وكان ذلك سبب حظوتي عنده”.
تلك بعض مشاهد وعادات استقبال المسلمين -بمختلف أجيالهم وأحوالهم- لشهر رمضان المبارك على مرّ العصور والأزمان، وهي تكشف لنا أن هذه الأمة لم تعرف الكلل والمللفي هذا الشهر الفضيل، فقد كان بنوها -في غالب أحوالهم- ما بين عبادة وإنفاق وتعليم وإنشاء وتعمير وتنافس على الصالحات، بين مختلف طبقاتهم وألوانهم وأمصارهم وأعصارهم.