يتمنى كثيرون لو يرجع بهم الزمن للخلف، ليس فقط إلى ما قبل 2020، بل إلى حقبة تاريخية أخرى، وعالم مختلف لا يتوفر فيه حتى ما توفره الشبكة العنكبوتية. ويلتمس عادة أصحاب هذا النوع من الحنين للماضي بعض المواساة والاسترخاء في زمن آخر لم يكن مثقلا بالحروب والمجاعات واللاجئين، وغير ذلك من الكوارث، وصولا إلى كورونا.
ولعل أبرز ما يستطيع الفن تقديمه في تلك الأيام العصيبة من حياتنا هو بعض الراحة، أن ننسى -ولو بعض الوقت- أننا هنا وفي تلك الفترة من الزمان بكل ما تحمله من مشاكل وأوجاع. فما الذي نحتاج إليه؟ شرابٌ دافئ، أو كوخ صغير، أو مراع خضراء على امتداد البصر. ربما نحتاج لكل هذا، نحتاج لأُنس الحياة البسيطة، ودفء الأزمنة التي لا تحمل تهديدا لنا.
“الفن هو الوسيلة الوحيدة للهرب دون أن نترك البيت”. الناقدة الفنية توايلا ثارب
رائحة البيوت
يعطي الرسام الروسي سيرجي سفيريدوف في لوحته “أمسية احتفالية” (Festive Evening)، المرسومة عام 2014، ما هو أكثر من مجرد وسيلة للهرب؛ يعطي فسحة من الزمان والمكان في مساحة 75 سنتيمترا × 90 سنتيمترا، من الزيت على الكنفاس، في أجواء بسيطة؛ طاولة في حديقة وسط الزهور والأضواء الهادئة بانتظار مَن يجلس عليها.
تنتمي اللوحة للمدرسة الواقعية، واستخدم سفيريدوف فيها ألوان الطبيعة، كما أعطى التفاصيل اهتمامًا خاصًا؛ فنجد أن مفرش الطاولة بكافة الأدوات الموضوعة فوقها منظمة بعناية ومرسومة بدقة، كذلك أحسن سفيريدوف تمثيل أجواء الحديقة من زهور وأشجار وخلافه، حتى صارت اللوحة رمزًا للسكينة والانسجام.
لوحة “أمسية احتفالية” للرسام الروسي سيرجي سفيريدوف
طاولة الشاي
اللوحة الثانية هي “طاولة الشاي”، المرسومة عام 1935، رسمتها دوقة روسيا الكبرى أولغا ألكسندروفنا، ابنه الإمبراطور ألكسندر الثالث. واستخدمت فيها ألوانا مائية على ورق، في مساحة 32 سنتيمترا × 39 سنتيمترا، وأهدت العائد المادي منها للأعمال الخيرية كبقية أعمالها.
واللوحة تمثيل واقعي لمنزل الدوقة الريفي؛ نافذة تطل على المزرعة، ومن داخل الغرفة توجد طاولة شاي مغطاة بقطعة قماش مطرزة مع الدانتيل، مع طقم شاي بورسلين باللونين الأزرق والأبيض، وهو المفضل لدى الدوقة، ونرى أيضًا كرسيها المريح المغطى بالألوان ومن حوله أزهار التوليب وأنواع زاهية أخرى من الزهور. وبالطبع، تعكس اللوحة حالة السكينة التي عاشت فيها الدوقة في منزلها الريفي بعد سقوط العائلة المالكة الروسية.
لوحة “طاولة الشاي” التي رسمتها دوقة روسيا الكبرى أولغا ألكسندروفنا
الحب كمعطف على جراح العالم
على شاطئ فارغ من أي بشر سواهم، وتحت سماء مرصعة بالنجوم، أعطى حبيبان ظهرهم للعالم، وجلسا متعانقين تحت ضوء القمر. هذا ما رسمته ماريانا فوستر في لوحتها “ضوء القمر فوق المحيط” (Moonlight Over The Ocean)، حيث ينعم الحبيبان بلحظات من السكينة الصافية، كأن العالم لم يمسسه سوء قط.
تنتمي اللوحة للمذهب الانطباعي، وهو معني بتمثيل مشاهد واقعية لكن بأسلوب غير واقعي، وهو ما يظهر في اللوحة على شكل تقطع في ضربات الفرشاة. كما تميل الانطباعية لتقديم المشاهد حسب انطباع الرسام عنها وليس كما هي في الواقع. ونجحت فوستر هي الأخرى في خلق جو من السكينة والارتياح في اللوحة.
لوحة “ضوء القمر فوق المحيط”
سكينة ومواساة
في عالم الحب والألفة، صال وجال مئات الرسامين، كل منهم على حده حاول جاهدًا الإلمام بما يعنيه العناق من دفء وسكينة ومواساة في عالم ذاخر بالتعاسة والمآسي، واحدٌ من هؤلاء هو الانطباعي الأميركي رون هيكس في لوحته “لدينا بعضنا البعض” (We have got each other)، التي صور فيها كيف ينحصر الكون أحيانًا بين ذراعي إنسان.
يؤكد هيكس دائما أن الظلال والنور في لوحاته هي لغته في التعبير عما يريد، وهو ما يحققه من خلال ضربات الفرشاة القوية، واستخدام ظلال متعددة لألوان داكنة. ونجد في لوحته هذه رجلا جالسا يضم امرأته الجالسة على ركبتيها أمامه. ورغم أن ملامح وجه الزوجين غير واضحة، فيبدو جليًا من أجواء اللوحة أنها تحمل عنه همًّا ما.
لوحة “لدينا بعضنا البعض”