في الأيام الأولى لوباء كورونا، كان هناك جهد هائل ومثير للإعجاب لتحويل الكثير من تفاعلات الحياة الواقعية إلى افتراضية عبر الإنترنت في وقت قصير، فلطالما كانت التكنولوجيا تعتبر رابطا رائعا، لكن يجب أن نتذكر حدودها وإحباطاتها، وندرك أنها ليست بديلاً عن الاتصال وجها لوجه وتحدي أولئك الذين يسعون إلى تحويل مسافاتنا التقنية المؤقتة إلى حالة دائمة.
تقول الكاتبة كلير فورغ في تقرير لها على موقع ذي تايمز (The Times) إن هناك حديثا متزايدا حول جعل هذا التحول عبر الإنترنت دائما، فلا نعود أبدا إلى الطريقة غير المريحة والمرهقة للقيام بالأشياء وجها لوجه.
وألقى وزير الصحة البريطاني مات هانكوك خطابا يشيد فيه بحقبة جديدة من “زوم الطب”، محذرا من أن النظام الصحي “يجب ألا يرتد إلى العادات القديمة السيئة”.
وأعلن هانكوك أن “مِن الآن فصاعدًا، يجب أن تكون جميع الاستشارات عن بعد ما لم يكن هناك سبب سريري مقنع لعدم القيام بذلك”.
وقال روبرت باكلاند، وزير العدل، إن وزارته تدرس استخدام محاكمات زوم، حيث يدقق المحلفون في الإجراءات عن بُعد، وهذا يحدث بالفعل حيث تم استخدام سينما إدنبرة مؤخرًا كمقر لهيئة المحلفين لمشاهدة محاكمة على الشاشة الكبيرة.
وكتب نائب الرئيس التنفيذي لوكالة ضمان الجودة للتعليم العالي أن الانتقال إلى مزيد من التعلم الرقمي “من المقرر أن يصمد أمام الوباء”. وفي الوقت نفسه، فإن العمل من المنزل هو الانتقال من الوضع الطبيعي الجديد إلى الوضع الطبيعي الدائم للعديد من الشركات.
وزير الصحة البريطاني مات هانكوك ألقى خطابا يشيد فيه بحقبة جديدة من “زوم الطب”
وأعلنت شركات مثل تويتر (Twitter) وفوجيستو (Fujitsu) أن هذه ستكون طريقتها الدائمة في العمل، وأظهر استطلاع حديث أن غالبية الشركات البريطانية تخطط لتقليص مساحة مكاتبها بشكل دائم.
ليس من الصعب معرفة سبب حرص السياسيين والشركات على جعل تباعدنا التكنولوجي دائمًا، حيث تعد التكنولوجيا بأن تكون الحل الفضي اللامع الذي من شأنه حل مشكلة تقليل الموارد، وتوفير الكثير من المال، وجعل الحكومة تبدو “مستعدة لمواجهة المستقبل”. بالنسبة للشركات، فإن جاذبية العمل من المنزل هي بالطبع المحصلة النهائية التي تعني تقليل المصاريف.
في بعض الحالات، يكون التحول الدائم من التفاعلات الواقعية إلى التفاعلات البعيدة أمرا منطقيا، فمثلا إنهاء معظم الإجراءات المدنية في حالات الطلاق عبر الإنترنت يعتبر عملا منطقيا، وكذلك عملية تحديث الوصفات الطبية دون الحاجة للذهاب للطبيب.
ولكن غالبا ما يفقد المتحمسون لمزيد من التكنولوجيا حاجة الإنسان الحيوية للاتصال وجهًا لوجه، والغرض العملي والاجتماعي منه. فالطبيب الجيد لن يخبرك عن حالتك المرضية عبر الإنترنت بالطريقة والثقة نفسيهما عند التحدث عن أشياء محرجة وجها لوجه.
وفي النظام القضائي، فإن الجو الرصين للمحكمة، ودراما استجواب الشهود، ولغة جسد المدعى عليه، كلها عوامل حيوية لعمل العدالة بشكل صحيح. حتى البروفيسور ريتشارد سسكيند، الذي دافع منذ فترة طويلة عن نقل قضايا المحاكم عبر الإنترنت، يقول إن فكرة وجود هيئة محلفين متفرقة ومبعثرة فكرة سيئة، إذ إن “هيئة المحلفين هي نشاط مجتمعي.. فأنت تولي المحكمة اهتمامك الكامل”.
فكرة وجود هيئة محلفين متفرقة ومبعثرة تقوم بأداء مهامها عبر الإنترنت هي فكرة سيئة بحسب الخبراء
عافية الموظفين
يعاني طلاب الجامعات بالفعل من ساعات طويلة جدا من الوقت الضائع عبر الإنترنت وقلة الاتصال بالمدرسين. وإن الطلب منهم التحديق لفترة أطول في أجهزة الحاسوب المحمولة الخاصة بهم في غرف تشبه الصناديق هو وصفة للوحدة والاكتئاب.
ويعد العمل من المنزل جيدا جدا بالنسبة لأولئك الذين لديهم مكاتب منزلية مضاءة بنور الشمس ومجهزة بمستلزمات العمل كأماكن عمل صحية، ولكن ماذا عن أولئك الذين يتشاركون في شقة مع أربعة آخرين، أو في العشرينيات ممن يرغبون في مخالطة أناس كل يوم ليجدوا أصدقاء لهم؟
وتقول الإحصاءات إن واحدا من كل خمسة منا قابل أحد المهمين في حياته من خلال العمل، فهل سيحدث هذا عبر مؤتمرات زوم؟ بالنسبة للكثيرين، فإن العمل من المنزل مع القليل من الاتصال البشري ليس نوعًا من اليوتوبيا المرنة ولكنه احتمال كئيب جدا ووحيد.
سيكون هناك البعض الذين يحبون التعامل والعمل عبر الإنترنت، والاختلاط الاجتماعي عبر الإنترنت والتحدث إلى طبيبهم عبر الإنترنت، والذين يعتقدون أنه يجب على بقيتنا المشاركة في البرنامج. لكن القضية هي الاختيار، فنحن نتجه إلى عالم سيكون فيه عدد الخيارات أقل حول كيفية تفاعلنا مع الآخرين، حيث سيكون الفضاء الافتراضي هو الخيار المفروض وربما بعد فترة الخيار الوحيد.
لقد بنت التكنولوجيا بالفعل جدرانا بيننا، وصفارات الإنذار على الشاشة كلما جد جديد في هذا العالم تقلل الوقت الذي نقضيه كل يوم في التفاعل مع البشر الآخرين. ونخشى أن ندخل في عصر ما بعد الجائحة حيث ترتفع الجدران وتصبح غير قابلة للاختراق.