في القرن 17، توجه المرضى -الذين عانوا من آلام في الأطراف أو أمراض جلدية لم تشف من قبل الأطباء- إلى “البئر المقدسة” في بريطانيا، أملا في الشفاء بعدما تناقلت الحكايات حول الخصائص العلاجية لمياه تلك البئر.
شُفي بعض المرضى بعد شرب الماء والاستحمام بها، فاعتادوا زيارة البئر وترك الزهور والصلاة بجوارها.
عام 1622، بدأ الرهبان في تعبئة مياه البئر في زجاجات، لتوزيعها على كبار السن والعجزة، ولتصبح “البئر المقدسة” الموجودة في مدينة مالفيرن أول مكان في العالم يعرف المياه المعبأة.
كلمة السر: النقاء
في القرنين 17 و18، تبلورت فكرة التداوي بالمياه الطبيعية، حتى أصبحت زيارات الينابيع والمنتجعات الطبيعية أمرا معتادا بين النخبة الثرية خلال القرن 19.
عام 1843، استشعرت شركة “شويبس” إحدى أقدم العلامات التجارية في العالم، والتي أنشأت قبل ذلك العام بـ 60 سنة، رائحة الربح من فكرة تعبئة المياه، فقامت بتعبئة المياه من “البئر المقدسة” وبيعها في زجاجات لأغراض تجارية بصبغة طبية.
واستمرت في التعبئة من البئر لمدة 54 عاما حتى نقلت الشركة الإنتاج إلى موقع مختلف عام 1897، طبقا لـ “ريسبوس سورس” Responsesource.
لفت نجاح التجربة في بريطانيا الباحثين عن الربح في أميركا، وبعد عامين فقط من بدء شويبس تعبئة المياه، قامت عائلة ريكر التي كانت تملك فندقا بولاية “ماين” Maine الأميركية بتعبئة المياه من ينبوع صغير بجوار الفندق، وبيعها بغرض الاستشفاء، وفقا لـ تقرير أبحاث BCC “الأسواق العالمية لمنتجات المياه المعبأة” Global Markets for Bottled Water Products.
ارتفع الإقبال بشكل ملحوظ على المياه المعبأة مع تفشي بعض الأمراض مثل الكوليرا والتيفوئيد
أما أول حالة موثقة لتعبئة المياه، وتوزيعها في الأسواق بالولايات المتحدة، فكانت عندما قامت شركة تسمى “جاكسون سبا” Jackson’s Spa في مدينة بوسطن ستينيات القرن 19، ببيع مياه ينابيع معدنية معبأة لاستخدامات علاجية.
وبالتوازي مع رواج المياه المعبأة في أميركا، كانت فرنسا قد دخلت القرن العشرين ومياه الينابيع المعبأة مثل إيفيان وفيتل وبيرير أكثر شعبية ورواجا هناك.
وضاعف من رواجها طلب مرضى الكلى المتزايد على إمدادات المياه لمواصلة علاجهم في المنزل، مما جعل المياه المعبأة تباع في الصيدليات، وظلت صناعة المياه المعبأة محدودة، وأصبح الطلب عليها محدودا كذلك.
لكن الطفرة حدثت وارتفع الإقبال بشكل ملحوظ على المياه المعبأة مع تفشي بعض الأمراض مثل الكوليرا والتيفوئيد بعد سنوات قليلة، حين ربط الكثيرون عدوى تلك الأمراض بالمياه الملوثة من الصنبور. وبحلول منتصف القرن، كانت إحدى أكبر شركات التعبئة المعبأة بالولايات المتحدة، “ساراتوغا سبرينغز” Saratoga Springs تنتج أكثر من 7 ملايين زجاجة مياه سنويا.
النقاء لم يعد سرًا
أوائل القرن العشرين، انتكست تلك الصناعة بعد ازدهارها، حين أتاحت معالجة مياه الصنبور بالكلور إقبالا واسعا عليها، وانخفض في المقابل الطلب على المياه المعبأة.
وفي السبعينيات، وفقا لتقرير على موقع “سيريوس إتس” Seriouseats بيع 350 مليون غالون فقط من المياه المعبأة بالولايات المتحدة، أي حوالي غالون ونصف الغالون للفرد في السنة.
أدرك الصناع أن تلك الصناعة تتداعى، ولا بد من إنعاشها قبل أن تنتهي تماما، وكانت “بيرير” Perrier، العلامة التجارية الفرنسية لمياه الينابيع الطبيعية الفوارة، التي تأسست منتصف القرن 19، تعاني من الضعف، حيث تباع عبوتها الزجاجية الخضراء في عدد قليل من المطاعم الراقية.
عام 1977، أعادت الشركة إطلاق العلامة التجارية إلى السوق الأميركية مع حملة إعلانية ضخمة في التلفزيون.
لعبت الدعاية على الجانب الصحي، وطرحت “بيرير” نفسها مياها فوارة نقية كبديل صحي للمشروبات الغازية، وانتعشت السوق من جديد.
ثورة البلاستيك
حدثت ثورة في عالم المياه المعبأة مع إدخال الزجاجات البلاستيكية عام 1968 التي أتاحت زجاجات سعة 1.5 لتر لم توفرها العبوات الزجاجية من قبل.
تغيير الشكل وزيادة الإقبال نشطا عددا من العلامات التجارية للتسابق والاستحواذ على السوق الفرنسية منذ منتصف الثمانينيات باعتبار المياه المعبأة صناعة واعدة.
وفي التسعينيات قررت شركتا بيبسي وكوكا كولا الدخول إلى حلبة السباق لكن بشكل جديد.
لم تعتمد الشركتان مياه الآبار والينابيع كباقي الشركات، لكنهما وبكل بساطة استخدمتا مياه الصنبور بعد تنقيتها وإزالة الشوائب منها، وطبقا لمنظمة “كونسيومر ريبورتس” Consumerreports، أطلقت الشركتان المياه المفلترة بحملة إعلانية قوية وتسعير متوسط، وسرعان ما اكتسبتا حصة كبيرة في السوق.
تختلف المياه المعدنية عن الأنواع الأخرى من المياه المعبأة على أساس المحتوى الثابت من المعادن
ليست كل المياه معدنية
تشير مصطلحات مثل “مياه الينابيع، المياه النقية، المياه الارتوازية” إلى حالة المياه قبل تعبئتها، فـ “مياه الينابيع” تأتي من ينابيع تحت الأرض ويتم تجميعها ومعالجتها قبل تعبئتها، و”المياه النقية” يمكن أن تأتي من أي مصدر ولكن يجب أن تعالج بدرجة عالية مثل الماء المقطر، أما “المياه الارتوازية” فهي مياه البئر أو المياه المتدفقة من بين الصخور.
وتختلف المياه المعدنية عن الأنواع الأخرى من المياه المعبأة، على أساس المحتوى الثابت من المعادن والعناصر فيها. وتباع على أساس محتواها المعدني، في حين يتم الترويج للمياه المعبأة على أساس أن المياه نقية ولا يوجد محتوى آخر بها لكنها معالجة، بحسب دراسة تابعة لجامعة سان ماركوس بولاية تكساس، بعنوان “المياه المعبأة: لماذا هي بهذا الحجم؟” Bottled Water: Why Is It so Big.
وضع السوق العالمية
تعد الولايات المتحدة أكبر سوق استهلاكية للمياه المعبأة في زجاجات، حيث بلغ حجم مبيعات المياه المعبأة في هذا البلد عام 2018 حوالي 13.85 مليار غالون، بنصيب 42.3 غالونا للفرد.
عام 2019، بلغ إجمالي مبيعات المياه المعبأة في الولايات المتحدة حوالي 3.02 مليارات دولار.
وفي الدول العربية، وصلت سوق المياه المعبأة بدول مجلس التعاون الخليجي إلى ما يقرب من 19 مليار لتر عام 2018.
وتمثل السعودية أكبر سوق للمياه المعبأة بالمنطقة، وحسب تقرير مجموعة أبحاث السوق “آي إم أيه آر سي” IMARC Group’s، يتوقع أن تصل السوق إلى حجم 25.4 مليار لتر بحلول عام 2024.