على مدى السنوات القليلة الماضية، زادت الأبحاث حول الطرق التي يؤثر بها التصميم والبيئة والعمارة على مزاجنا ورفاهيتنا العقلية، رغم أن الرفاهية كانت دائما مكونا من عناصر التصميم المعماري إلى حد ما.
إلا أن الاهتمام بالرفاهية العقلية والنفسية زاد على مدى العقد الماضي، خاصة في أماكن العمل، لمساعدة الموظفين على أداء أفضل، أو جعل بنايات المستشفيات أقل إثارة للقلق، أو الفصول الدراسية والمدارس أكثر تعزيزا للرغبة في التعلم، أو المساحات الفنية أكثر تشجيعا على الإبداع.
ويدرس المصممون بعناية جميع جوانب المساحة، بما في ذلك التصميم الخارجي والداخلي والأعمال الفنية والأثاث والإضاءة، وحتى الروائح والأصوات وباقي العناصر البيئية التي تتفاعل مع التصميم المعماري للمساحة.
ويؤكد المهندس المعماري بن شانون مؤلف كتاب “العمارة والرفاهية العقلية”، أن التصميم المعماري الذي يوفر مساحات قابلة للتكيف يمكن للسكان تغييرها لتناسب احتياجاتهم أو أهوائهم، يؤدي إلى أشخاص أكثر سعادة، بالإضافة إلى أن بعض المصممين يمكنهم توظيف تصميمات تشجع على السلوك الصحي، مثل بناء سلالم جذابة من الناحية الجمالية لتكون دافعا للنشاط البدني وتقليل استخدام المصاعد.
ويقول المهندس المعماري والناقد جي أهن إنه يجب على التصميمات المعمارية أخذ المشاعر الإنسانية في الاعتبار، فهي ليست مجرد تصميمات جذابة، لكنها أماكن يشعر فيها الناس بالراحة، لذا يجب أخذ الخلفيات المختلفة للبشر في الاعتبار، لأن التصميم إذا لم يستخدمه الناس حتى لو كان جميلا، فإنه يتحول إلى مساحة ميتة، لذا فإن من المهم معرفة الاحتياجات الجسدية والنفسية للسكان، سواء كانوا أطفالا بحاجة إلى مساحات واسعة للعب أو كبارا بحاجة إلى الهدوء والخصوصية.
التصميمات المعمارية ليست مجرد تصميمات جذابة، لكنها أماكن يجب أن يشعر فيها الناس بالراحة
دور الجمال في تغيير مزاجنا
كما يقول الفيلسوف والكاتب ألان دي بوتون إن “للجمال دورا كبيرا في تغيير مزاجنا”، فعندما نطلق على كرسي أو منزل وصف “جميل”، فإن ما نقوله حقا هو أننا نحب أسلوب الحياة الذي يقترحه علينا، لأنه يجعل الحياة أكثر سهولة وراحة، وهي متطلبات الإنسان منذ القدم.
بالطبع لا يمكن للهندسة المعمارية بمفردها أن تجعلنا دائما سعداء، لكن يمكن القول إنها توحي لنا بمشاعر جيدة، مثلها مثل الطقس، إذ يمكن أن يغير الطقس الجيد حالتنا الذهنية بشكل كبير، لكن يبقى الاقتصاد دائما عائقا في رفع الهندسة المعمارية الجمالية إلى واحدة من أولويات البلاد أو البشر، بالمقارنة بالاحتياجات الأخرى مثل الأمان وتوفير مياه الشرب ومصادر الطاقة مثلا.
ويؤكد مصممو العمارة والديكور أن من أفضل طرق تعزيز الشعور بالرفاهية والسعادة، هو تصميم المساحات الداخلية بطرق ترتبط بالخارج وبالطبيعة بشكل خاص، بمعنى أنه يمكن تكبير النوافذ لزيادة الضوء الطبيعي المتدفق، أو اختيار أماكن النوافذ لتلتقط المناظر الأكثر جمالا حول المنزل.
كما أنه يمكن جلب الطبيعة إلى داخل المنزل عن طريق المحاكاة، إما بتزيين المكان بالنباتات أو أو بلوحات وصور للمناظر الطبيعية، مما يقلل التوتر والكآبة ويعزز جهاز المناعة ويساعد على النوم المريح.
من أفضل طرق تعزيز الشعور بالرفاهية ربط المساحات الداخلية بالطبيعة
تأثيرات خفية
ويمكن للتصميم المعماري أن يزيد من فرص التواصل الاجتماعي، ويمكنه أيضا أن يعزز العزلة، لذا يعمل المصممون المعماريون على إثراء الأماكن العامة في المدن عن طريق المقاعد الموجودة في الحدائق، أو تصميم ممرات وجسور للمشاة بعيدا عن السيارات والطرق السريعة، وهي الطرق التي يستخدمها المعماريون لإبعاد مشاعر العزلة والوحدة عن المدن، كما أنها تجعل السكان يشعرون بالراحة في محيطهم، لأن أهم وظائف عمارة المدن: تبديد مشاعر الوحدة التي تلازم الإنسان المعاصر.
وبالرغم من الجدل المستمر بين علماء النفس والمصممين المعماريين حول أهمية العمارة وتأثيرها الكبير في مشاعر الإنسان وأفكاره، فإنهم اتفقوا على أن التصميم الناجح لا يتعلق بالكيفية التي تخدمنا بها المباني، لكنه التصميم الذي يعزز لدى الناس شعورهم بالسيطرة على البيئة المعمارية دون قلق أو ارتباك، أي أن المبنى الذي يشعر الناس بداخله بالضياع أو فقدان الاتجاهات -مهما بدا جميلا- يفقد جزءا كبيرا من قيمته المعمارية.