صلاح السعدني صاحب “المذاق اللاذع” في جيل الفن الذهبي الذي ولد في الأربعينيات وبزغ وتألق في ستينيات القرن الماضي. بصوته الخشن وخفة ظله وصراحته التلقائية، وملامحه وتكوينه الجسدي المصري الصميم الذي يجسد شخصية “ابن الحتة” الشهم “الدوغري” الذي لا يخشى أحدا.
لم يكن “عمدة” بعد، عندما دخل بيوت المصريين مع الاختراع الجديد المسمى بالتلفزيون، من خلال تمثيلية “الرحيل” 1960، فقد كان عمره آنذاك 17 ربيعا، وكانت البيوت القادرة على اقتناء هذا الجهاز تعد على أصابع اليد الواحدة في كل حي.
ليعود في 1964 ويدخل إلى مزيد من البيوت مع تمثيلية “الضحية” في دور “أبو المكارم”، الأخرس بلا صوت ولا أرض ولا بيت، لكنه يملك قلبا يفيض رحمة على الضعفاء، ولا يخلو من جرأة على المستبدين.
ومنذ ذلك الحين لم يخرج أبو المكارم من ذاكرة المصريين، ولا خرج صلاح السعدني من بيوتهم. وظل يدهشهم ويضحكهم ويبكيهم، حتى كبر وأصبح “عمدة” قرية ميت أبو غانم، الفلاح الجبار الذي يدفعه جموحه إلى تحدي الكبار والترشح للبرلمان والزواج من نازك هانم السلحدار في “ليالي الحلمية”.
“أرابيسك” الضحك والدموع
حجز السعدني مكانه بين الكبار مبكرا، وتربع على قمة الدراما التلفزيونية مرارا لما يتمتع به من قدرة على تجسيد الملامح النفسية لمختلف الشخصيات، ولتحاشيه النمطية والتكرار، ورهانه على المحتوى الهادف. إلى جانب موهبته الكبيرة في تقديم التراجيدي والكوميدي.
فقد شارك في السينما والمسرح والتلفزيون بأدوار رئيسية وأخرى ثانوية هامة بما يقرب من 65 فيلما، و40 مسرحية، وأكثر من 100 عمل تلفزيوني، شكلت لوحة من الأرابيسك يتعاشق فيها الضحك والبكاء.
من “الواد علواني” الفلاح المسحوق في فيلم “الأرض” 1970، إلى الجندي مسعد في “أغنية على الممر” 1973، ورؤوف في “الرصاصة لا تزال في جيبي” 1974، والشاب الواعد حمدي في “شقة في وسط البلد” 1975، وجلال في “حكمتك يا رب” 1976، وسعيد أبو الهدى الضابط المفتري في “ملف في الآداب” 1985، وسمير الشاب المُفترى عليه في “طائر الليل الحزين” 1977، وهشام في “الأشقياء”، و د. محيي في “الشيطان يغني” 1984، والأب المطحون في “المراكبي 1995، وعزوز عبد التواب في “كونشرتو درب سعادة” 1998، وغيرها كثير.
أيضا رأيناه على المسرح في شخصية الأمير المفلس في “اثنين في قفة”، والموظف المطحون الذي وقع في فخ الإدمان في “الدخان” 1991. واللص المحتال في “البحر بيضحك ليه؟” 1990.
كما تألق في شخصيتي الصعلوك الفقير والحاكم الطاغية في “الملك هو الملك”، والصحفي الذي يسعى لكشف الفساد بإحدى المؤسسات في “حالة طوارئ” 1988. والحلاق الذي قبل العمل في معسكرات الإنجليز إرضاء للفتاة التي يحبها في “زقاق المدق” 1984. والضابط الذي يرتبط عاطفيا بفتاة نزيلة إحدى الملاجئ في “الدنيا مزيكا” 1976.
وشاهدناه كذلك في دور الإنسان الشريف الذي ينتكس ويتخلى عن مبادئه في “نحن لا نحب الكوسة” 1975. والشاب الذي يتطلع للحرية والانطلاق في “الجيل الطالع” 1971. والأمير في مسرحية “الملوك يدخلون القرية” 1970، وهي أول بطولة مسرحية مطلقة بالنسبة له. والعشيق في “ابتسامة بمليون دولار” 1970. والجندي الذي يحارب لإزالة آثار نكسة 1967 في “أغنية على الممر” 1968، والشاب المستهتر الذي ينضج ويتحول لمناضل وطني في مسرحية “حارة السقا” 1966. بالإضافة إلى كثير من الشخصيات المتنوعة في حوالي 25 مسرحية أخرى.
أما في التلفزيون فبعد بداياته في “الضحية”، و”الساقية”، و”الرحيل”، تألق في رائعة “لا تطفئ الشمس” 1965، وحقق بعدها نجاحا مدويا بصحبة صديق عمره الفنان نور الشريف في “القاهرة والناس”، و”عادات وتقاليد” 1972. ليسرع الخطى نحو مزيد من النجاح في “الشوارع الخلفية”، و”أبنائي الأعزاء شكرا” 1979، و”صيام صيام” 1980، و”لسه بحلم بيوم” 1981. ثم “بين القصرين” 1987، و”قصر الشوق” 1988. ليصل بنا إلى “شارع المواردي” في جزءين (1990 و1995)، و”أرابيسك” 1994. ثم “حلم الجنوبي” 1997، وسنوات “الشقاء والحب” 1998.
حتى تربع على عرش الدراما التلفزيونية العربية بأيقونتها الأسطورية “ليالي الحلمية”، أبرز دراما مصرية كتبها أسامة أنور عكاشة وأخرجها إسماعيل عبد الحافظ، لتصور التاريخ المصري من الحقبة الملكية إلى مطلع التسعينيات، في عدّة أجزاء (من 1987 إلى 1995). والتي مثلت علامة فارقة في الأداء التمثيلي لشخصية “سليمان غانم” العمدة الذي لا يوقفه شيء، ولا يسلم من لسانه ولا يده أحدا. حتى كاد يتفوق على رمز “العُمودية” التقليدي في السينما المصرية، الفنان صلاح منصور.
أيضا في مسلسل “أوراق مصرية” المكون من 3 أجزاء (1998، 2002، 2004)، تحكي الأحداث السياسية في مصر بداية من عهد الملك فؤاد، مرورا بالملك فاروق وأحداث الحرب العالمية الأولى وحركة المقاومة الشعبية ضد المستعمر البريطاني حتى وفاة عبد الناصر، فقد أبدع فيها صلاح السعدني مع ما يزيد عن 350 ممثل وممثلة. قبل أن يبهرنا بـ”رجل في زمن العولمة” (جزءين 2002، 2003)، ثم “الناس في كفر عسكر” 2003، و”للثروة حسابات أخرى” 2005. وأخيرا، بشخصية تاجر المخدرات الذي فقد نجله وحفيده في “الباطنية” 2009.
لم يكن النجم المتفرد صلاح السعدني يعلم -وهو منهمك في تصوير مسلسل “القاصرات” 2013- أن هذا سيكون آخر أعماله الدرامية الرمضانية، بعد 5 عقود من التألق غير القابل للمنافسة. لكن المرض أبى إلا أن يوصله إلى خط النهاية مبكرا، كما بدأ من نقطة البداية مبكرا أيضا، ويحرم جمهوره العريض من إطلالته المشاغبة المبهجة.