كان الكتاب والأدباء في العصور القديمة يتحدثون عن التعب، قبل أن يتحدث كتاب العصر الرومانسي خلال القرن الـ18 عن الإنهاك العصبي، وهو ما تطور أخيراً إلى الإرهاق في العصر الحديث، حتى أصبح من الشائع أن التعب قد التهم كل شيء في حياتنا، حتى نومنا الذي لن نستعيده مجددا، فهل نحن حقا أكثر إرهاقا ممن سبقونا؟
عن تاريخ “التعب”، تحدث لمجلة لوبس الفرنسية المؤرخ جورج فيغاريلو مدير الدراسات في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية الفرنسية، وأحد الوجوه البارزة في دراسة الجمال، وقد درس الجسد ونمط الحياة والشعور بالذات، وهو اليوم ينشر كتابا عن تاريخ “الإرهاق” منذ العصور الوسطى إلى يومنا هذا.
وفي حوار مع ريمي نويون، يقول فيغاريلو إنه من شبه المستحيل مقارنة الأحاسيس عبر الزمن، وإن كان من الملاحظ أن التعب أكثر حضورا في الاهتمامات المشتركة اليوم، كما يوضح في بحثه التاريخي.
ويرى المؤرخ أن البحث في موضوع الإرهاق لابد أن يسبقه تمهيد طويل لتمثلات الناس للجسد، لأن هذه التمثلات تتغير عبر الزمن، فتعريف التعب وكيفية مقاومته مثلا، كانت في نظر القدماء تشير إلى الحالة المزاجية التي تؤثر في الجسم عضويا، أما في عصر التنوير الغربي فقد أصبح الجسم يرى على أنه ألياف وأعصاب وتيارات وكهرباء، والتعب هو نقص في التحفيز، يتم تعويضه “بالمقويات” و”المنشطات” أو المنبهات.
التعب وتمثلات الجسد
والرؤية الأقرب إلينا –كما يقول المؤرخ- ترى الجسد في القرن التاسع عشر “جهازًا” نشطا، يجسد الاحتراق الكيميائي قوته، ويجسد احتياطي السعرات الحرارية إمكاناته، ومع هذا التغير تتغير علامات التعب، لتتحول إلى فقد الأكسجين وانطفاء الحرارة، كما يتغير أيضا التخلص من التعب ليصبح استعادة السعرات الحرارية وإمدادات الطاقة، وإزالة بقية الخبث المتبقي في الجسم بواسطة الكيمياء العضوية.
أما اليوم فهناك تغيير آخر برؤية أكثر تعقيدا، حيث تسود الظواهر العصبية، ودور التحفيز والتوتر والتعبئة النفسية، وقد تبدو المعالم الثقافية والاجتماعية بالقدر نفسه من الأهمية.
والتعب -حسب المؤرخ- يتطلب “قصة كاملة” لأنه يكشف عن المجتمع، ففي العصور الوسطى كان الحديث يدور حول إرهاق المقاتل الذي يدافع عن المدينة أو إرهاق رجل الدين الذي “يخلص” الجميع بمعاناته من أخطائهم، وإن كان تطور المجتمع فرض أشكالًا جديدة، كإرهاق السياسيين وما تسببه المدينة أو الحرف التي تعتبر مهمة.
أما ولادة الإرهاق الجماعي كما هو اليوم، فظهرت مع نهاية القرن الـ١٩ بعد أن كان الإرهاق لفترة طويلة مجزأ ومتباينا حسب الأشخاص أو الدوائر المعنية، ليصبح في الزمن الحديث شعورا موحدا ومنتشرا يشير إلى “تسارع” العالم.
وتثير الاضطرابات الصناعية والعلمية والتقنية والحضرية القلق بظهورها المفاجئ الذي خلق إشكالية التكيف، وتأتي كلمة “إرهاق” للتعبير عن استنكار الوجه المظلم والغربي للتقدم، وكل ذلك يؤدي إلى أنماط غير مسبوقة من الانهيار.
مفهوم الإرهاق الجماعي.. ظهر مع نهاية القرن الـ19 بعد أن كان الإرهاق لفترة طويلة مجزأ ومتباينا
هناك من يشكك في صحة استخدام آلات المعلومات الجديدة، ويأسف للإغراءات الرقمية المستمرة التي من المفترض أن تؤدي إلى حالة من الاعتماد على الآلة لا مفر منها، إلا أنه من الضروري التنبيه إلى ما يتمتع به الفرد من مرونة، بحيث إنه يتكيف ويتفاعل، إلى درجة أن ما بدا تسارعا في نهاية القرن الـ١٩ أصبح نكتة سخيفة بالنسبة لنا اليوم.
وبالتالي، فإن امتداد مجال التعب يستجيب لتطور أعمق، ويرجع ذلك -حسب المؤرخ- إلى المسافة المتزايدة لدى المجتمعات الغربية، بين الأنا المتضخمة بفعل علم النفس والاستهلاك والتقدم الديمقراطي، وبين استمرار القيود التي تعتبر أكثر من أي وقت مضى، والمعاناة من الحدود المفروضة؛ في الوقت الذي تؤكد فيه “الأنا” نفسها، فهذا أحد المصادر المهمة للإرهاق اليوم، بحسب المؤرخ الفرنسي.
التعب من أن تكون أنت
ولكن كيف اتسع نطاق التعب من القسوة الجسدية إلى التحرش النفسي؟ يجيب فيغاريلو أن إرهاق العقل والشعور بالتعب كان أكثر وضوحا مع المجتمع الكلاسيكي، وقد لعب التنوير دورا حاسما بتمكين ديناميكية نشأ عنها تأكيد “المواطن” الذي يركز على نفسه أكثر، ليصبح التعب “حالة” تحفز الفضول، ويظهر في الرسائل والأدب، ويصبح موضوع تقارير طويلة.
وهنا نشأت حالة تجمع الإرهاق النفسي بالتعب الجسدي، كما يظهر في روايات النصف الثاني من القرن الـ١٩، مثلما يصف الأديب الفرنسي إيميل زولا هروبا سريعا من المنجم.
ولد الأديب الفرنسي إميل فرانسوا زولا في أبريل 1840 وتوفي سبتمبر 1902
وعند سؤاله، هل نعيش لحظة اكتمال حركة بدأت مع عصر التنوير، عندما خلق تضخم الذات أملا وتوقعا، حتى إذا خاب هذا الأمل، كان ذلك منشأ التعب الوجودي؟ يرد فيغاريلو بأن التحول بدأ منذ أصبحت الأنا التي تؤكد وجودها معاناة لمن يحملها.
وللتوضيح يشير فيغاريلو إلى شهادة الكاتب غابرييل شوفالييه الذي قال إن “الإرهاق الجسدي الذي لا يترك للناس وقتا للتفكير، يجعلهم لا يفكرون في أكثر من الحاجات الأساسية”، معتبراً أن هذا الإرهاق أصبح “وسيلة مؤكدة للسيطرة”، وهذا هو ما وراء المفاهيم التي نشأت مع القرنين الـ٢٠ والـ٢١ كالإجهاد والإرهاق.
رفيق الحياة الملازم
وهذا المفهوم يؤدي إلى تناقض مرتبط بمجتمعات اليوم، بحيث تعلي الدعاية من إمكاناتنا في حين تضع لنا الأنظمة حدودا أكثر تنوعا وخبثا، إضافة إلى ما أصبح يعانيه الفرد في مجال العمل بالشركات ونمو المهن المحفوفة بالمخاطر وتزايد المراقبة الرقمية، مما يجعل للإرهاق فجأة حضورا نابضا وغير مسبوق.
ويسلط مفهوم “الإرهاق” الذي وضعه هربرت فرودنبرغر نظريا في عام 1980، الضوء على هذا التناقض، الذي يتجلى في المسافة التي لا يمكن التغلب عليها بين “المُثل اللانهائية” وبين تحقيقها المستحيل، أي صعوبة القبول بأي هيمنة، وصعوبة العيش مع كل القيود.
وباء الوحدة
وعندما كان الأكاديمي البريطاني وأستاذ التاريخ الاجتماعي ديفيد فنسنت يؤلف كتابه “تاريخ العزلة” لم يكن لديه أي فكرة أنه سينشر في العام 2020 بالتزامن مع تفشي جائحة كورونا التي فرضت على مئات الملايين من البشر ما يشبه العزلة الذاتية، ضمن إجراءات الوقاية ومنع تفشي الفيروس المستجد.
ومدفوعا بمخاوفه من تنامي “وباء الوحدة”، كان فنسنت يسعى لتأريخ تطور العزلة على مدى القرون الثلاثة الماضية من منزله الريفي قرب ويلز البريطانية، مستكشفا كيف تصرف الناس في غياب الصحبة والرفقة الاجتماعية.
وفي كتابه الذي يعد سردا كاملا لتاريخ العزلة المعاصرة، قال فنسنت إن المثقفين في العصر الرومانسي الأوروبي -الذي تميز بالعناية بالمشاعر والعواطف والخيال- كانوا يرون الوحدة فترة راحة للمواطنين الذين يعيشون في مجتمعات حديثة ومعقدة، وبينما كان ينظر للوحدة على أنها من سمات الحياة الحديثة، اعتبرت أيضا مرضا خطيرا قد يؤدي للاضطراب النفسي والسلوك المعادي للمجتمع.
وأصبحت هذه الطبيعة المتناقضة للعزلة مصدر قلق كبير في العصر الحديث مع ظهور ما يسمى بوباء الوحدة؛ ولهذا أصبحت دراسة تاريخ رغبة الإنسان في العزلة والانفصال عن العالم موضوعاً أكثر أهمية في الزمن الراهن أكثر من أي وقت مضى.